السبت، ٢ يونيو ٢٠٠٧


قيادة تتقن صناعة الشهادة


"إن الأمة التي تحسن صناعة الموت يهبها الله الحياة الكريمة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة".. بهذه الكلمات ربَّى الإمام "البنا" تلامذته وأتباعه في الجماعة المباركة، وصاغهم على حب الجهاد ونية الاستشهاد، وعلمهم أن هذه الدعوة لا تقبل إلا التضحيات العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل، وأكثَر من ترديد الدعاء: "اللهم ارزقنا الموتة الطاهرة"، وسألهم: أتدرون ما الموتة الطاهرة؟ ثم قال لهم: "والله ما أراها إلا تلك.. وحزَّ بأصابع يده على رقبته، في مشهد تمثيليٍّ يجسِّد لهم الموتة الطاهرة بأنها التي تُقطع فيها الرقاب فداءً لهذا الدين.


بهذا الفهم ورِث أبناءُ الدعوة الرسالة، وأدركوا المهمَّة، وعرَفوا طبيعة الطريق، وفهِموا مقولةَ السلف الصالح: "أول الطريق قطرة دم.. هذه الجادة؛ فأين السالك؟"، ومضوا على الطريق يوفون بعهد الله.. ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111)، وهم يستمعون لشهيد القرآن وهو يهتف بهم واحدًا واحدًا: "طريقك قد خضبته الدماء"، فتسابَقوا إلى الميدان الأغر، الذي تنتظرهم على قارعته كوكبةُ الحور العين، وقوافل الشهداء السابقين الذين ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 170).


شهدت لهم ساحات الوغَى في أرض فلسطين في 48، وفي أرض القنال، وفي أفغانستان والبوسنة، وكل ساحة جهاد.. إنهم بحق رجال فعل وجهاد، وتضحية واستشهاد.. وتمتاز دعوتهم بأن الشهادة فيها صناعة وأمنية لقيادتها، الذين لا يؤثرون بها جنود الدعوة وفقط؛ بل هم في مقدمة صفوفها؛ بذلاً للروح، وشوقًا للحور العين، ومرافقةً للحبيب في جنات النعيم.


وكان انطلاق قوافل الشهداء من هنا وهناك، بدءًا من مؤسس الجماعة الإمام الشهيد "حسن البنا"، ومرورًا بقوافل الشهداء في 48، وقادة الدعوة في محنة 54 عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت ومن معهم، ثم قادة الدعوة في محنة 65 عبد الفتاح إسماعيل، وسيد قطب، ويوسف هواش ومن معهم، ثم شهيد أفغانستان كمال السنانيري وتلميذه عبدالله عزام، وتمضي القافلة لا تلين لها قناة، ولا تضعف أمام الضربات، وأمام ازدياد رحيل القادة شهداء في سيبل الله؛ بل أصبحت دعوةً ولودةً معطاءةً، عوَّدت أمتها أن تقدِّم طلائع وقوافل من القادة مجاهدين واستشهاديين.


وتتسلم أرض الإسراء والمعراج زمام الركب، وتصبح أكثر رواءً بدماء الشهداء، فتضم في ركبها "عماد عقل" والمهندس "يحيي عياش" و"صلاح شحاذة" و"إسماعيل أبو شنب"، وغيرهم الكثير، وينطلق الشيخ القعيد "أحمد ياسين"- مؤكدًا صحة التوجه-: "لا أخشى الشهادة؛ بل أحب الشهادة.. حين يريدونني سيجدوني فوق مقعدي المتحرك.. فأنا لا أختبئ"، فينال شهادةً عزيزةً غاليةً، يرقى بها إلى العلياء، ضاربًا أروع المثل عبر تاريخ الإسلام كله في التضحية والفداء والاستشهاد في سبيل الدعوة التي يحملها، ويتسلم الراية من بعده أسد حماس الجسور الدكتور "عبدالعزيز الرنتيسي"، فيؤكد أصالة الدعوة التي تقدم قادتها رموزًا للشهادة في سبيل الفكرة التي تحملها والغاية التي تنطلق بها: "لو رحل الرنتيسي والزهَّار وهنية ونزار ريَّان وسعيد صيام والجميع، فوالله لن نزداد إلا لُحمة وحبًّا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد، وغدًا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله- إن شاء الله"، ويزيد الأمر وضوحًا: "الشهادة أحد المرامي التي نرمي إليها، فإذا أطلت برأسها سوف لا نكون إلا مرحبين بها".


نعم صدقت يا أسد حماس الجسور، وها أنت تعانق من سبقوك على درب الشهادة في صحبة الحبيب المصطفى، وترحب بالشهادة أجمل ترحيب.. وتمضي القافلة نحو دربها المخضب بالدماء، تتقدمهم قيادات آمنت بسموِّ دعوتها، وقدسية فكرتها، فعزموا صادقين على أن يحيوا بها كرامًا، أو يموتوا في سبيلها كرامًا، فلم نرَ من قيادة الدعوة تردُّدًا ولا تراجعًا ولا توليًا للأدبار؛ بل نرى إقدامًا جسورًا، وهممًا متوقدةً، وعزائم فتِيَّة، وأرواحًا وثابةً، ودماءً سخيةً تسطر لنا أروع صفحات المجد والعزِّ والفخار على طريق صناعة الشهادة.