السبت، ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٩

الإخوان زمرة القلب الواحد


تهيئة

تلاحقت الأحداث خلال الأيام الماضية حول انتخابات مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، وتناقلت وسائل الإعلام أخبار الإخوان بالتحليل والتفسير والتأويل والتخمين (صدقاً وكذباً)، وتصدرت أخبار الإخوان الصحف والمجلات ونشرات الأخبار ومواقع الإنترنت، وفرضت أخبار الإخوان نفسها على الساحة السياسية، وعاش أبناء الصف الإخواني والمحبين والمعادين لهم على السواء جواً إعلامياً مشحوناً، مما أحدث نوعاً من البلبلة والاضطراب والقلق على مستقبل الإخوان، حتى من أقرب المقربين إليهم، وإن ما تعرض له الإخوان من قصف وتشويه واتهامات وتشكيك، إنما هو حرب نفسية مدروسة وإعلامية ممنهجة ومتعمدة، وتداولت الشائعات عن الانشقاقات القريبة في وسط الإخوان، وقال المحللون بأن المؤشرات تدل على حدوث انقسام داخلي، وهنا نتذاكر ما قاله الإمام البنا رحمه الله" وسمعت هذا اللغط فلم أعبأ به ولم أحاول الرد عليه، لأنني أعلم قاعدة أفادتني كثيرا في سير الدعوة العملي وهي أن الإشاعة والأكاذيب لا يقضى عليها بالرد ولا بإشاعة مثلها، ولكن يقضى عليها بعمل إيجابي نافع يستلفت الأنظار ويستنطق الألسنة بالقول، فتحل الإشاعة الجديدة وهي حق مكان الإشاعة القديمة وهي باطل"، من أجل ذلك توقف الكثير من الإخوان عن الرد على تلك الشائعات وكانت المواقف العملية أولى، وبعدما هدأت العاصفة تأتي هذه الكلمات تثبيتاً للصف وطمأنة للمحبين، وزيادة ثقة للعاملين، وبصيص أمل لليائسين، ومشعل هداية للحائرين، ومرداً إلى الجادة للشاردين، وتعزيزاً للثقة لدى الملتفين حولنا، وتوضيح موقف للآخرين الجاهلين بحقيقة دعوة الإخوان.


رابط تنظيمي

لقد عاش الإخوان عهوداً متكاملة وأزمنة عديدة بفضل من الله في ظل قوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، وعاشوا في ظل دعوتهم المباركة على قيم ومعاني الانتماء الصافي والطاعة الواعية المبصرة والثقة المتبادلة والأخوة الصادقة، مرددين مع الحادي( الكفوف في الكفوف فاشهدوا عهودنا ..الثبات في الصفوف والمضاء والفنا) وتربوا على ذلك ، فعاشوا لدعوتهم وبها في ظل إطار تنظيمي محكم البناء عميق الانتماء كثير العطاء لا تحكمه الأهواء، بل حب وإخاء وبذل وعطاء وطاعة مبصرة لا عمياء، فكانوا يتسابقون في الطاعة والحب والصفاء القلبي، الكل يحرص على أن يكون ضمن تلك العصبة المؤمنة بلا تملق ولا رياء ولا عصبية حمقاء، يجمعهم الرابط التنظيمي المتمثل في أركان ثلاثة( الطاعة والأخوة والثقة) لا يحيدون عنها قيد أنملة، فكان الإنتماء التنظيمي لدعوة الإخوان :

(1) طاعة مبصرة منطلقة من الإيمان شعارها " قوم يرون الحق نصر أميرهم .. ويرون طاعة أمره إيماناً" (2) أخوة صادقة تسمو فوق آواصر الانتماء الضيقة المحدودة .

(3) ثقة عالية لا تضعف أمام محن الشهوات والشبهات.


دعوة حب

علمنا أساتذتنا أن دعوتنا دعوة حب بلا عصبية ولا عنصرية جاهلية، بل عاطفة قلبية محكومة بعقلية واعية، فكانت الدعوة رحمة ورفق فيما بينها بغير ضعف، بعيدا عن دائرة الشحناء والبغضاء" لا تحاسدوا, ولا تباغضوا, ولا تجسسوا, ولا تحسسوا, ولا تناجشوا, وكونوا عباد الله إخوانا"، فأحب الإخوان دعوتهم حتى ملكت قلوبهم وجوارحهم، وانتموا إليها انتماءً يقهر التذبذب والاضطراب ويتحمل كل الصعاب ويتجاوز كل أسباب المفارقة لها أو البعد عنها، فكانت الدعوة لهم بمثابة حصن أمان يحول دون السباحة في مستنقع المتساقطين أو الخوض في عرض الدعوة أو قادتها، وارتفاع فوق سفاسف الأمور، وعلمنا الإخوان أن الحب في الله عقيدة وركن من أركان البيعة، وأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، نختلف في رؤانا وأفكارنا لكن لا تختلف قلوبنا، تتعدد مفاهيمنا في المسألة الواحدة ولكن بلا خصومة ولا بغضاء، .


زمرة القلب الواحد :

إن دعوة الإخوان شجرة سامقة زكية عطرة، جذورها عميقة ممتدة، وبناء دعوي أساسه متين، وكيان معنوي عاطفي عميق التأثير في القلوب، هكذا هم الإخوان، آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم ، فعزموا صادقين أن يعيشوا بها كراماً أو يموتوا في سبيلها كراماً، مهما تطاول عليها المتطاولون أو حاربها بالتهم العابثون، فأنتجت من أفرادها زمرة القلب الواحد على النحو التالي :

· زمرة القلب الواحد.. ترد الشاردين وتوقظ النائمين وتحيي الأمل في المتعبين وتبعث الهمم في المحبطين وتعيد الأمان للوجلين، فلا تهزهم ولا تزعزعهم عن دعوتهم زلازل الشبهات ولا براكين الشهوات، تقهر كل صور الانهزام النفسي و الضعف البشري، فلا عزلة ولا انطواء ولا تناجي دون الأحباب، تأتي عليها المحن فتزيدها قوة وصلابة واستمساكاً بالحق وثباتاً على الدعوة والتحاماً بالصف .

· زمرة القلب الواحد..متجردة من كل هوى، لا تتناوشها سهام المغرضين ولا شبهات الطاعنين في دعوتها وقيادتها، ولا تُقعدها المحن التي تتوالى عليها عن العمل لها، ولا تُقعدها ظروف الحياة المادية عن البذل والتضحية لها، ولا تتعارض عندها مصلحة الدعوة مع مصالحها الشخصية، ولا تكالب فيها على مناصب، ولا تنازع على سلطة، ولا إقصاء فيها لأحد ولا تآمر على أحد، ولا فكر ضبابي يحكمها، ولا وسوسة شيطان تفسدها، ولا هلوسة إعلام تزعزعها، بل اجتماع على الطاعة بمعناها الشامل واقامة دين الله في الأرض وفق منهج محدد الغايات ، وبيعة طاعة على العمل لله أو الموت في سبيل الله.

· زمرة القلب الواحد..تخُصَّ إخوانها بالحب والعطف والحنان والرفق واللين والإيثار وسلامة الصدر، وتفيض من قلبها على قلوب من حولها، تردد مع الإمام ما قاله: "نحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب"، وهي اجتماع على الخير، احترام متبادل، اعتذار عند الخطأ، اعتراف بالفضل لمن سبق، تكافل وتفاهم تامين ، تواص بالحق، حسن سمت وحسن عشرة وحسن معاملة طلاقة وجه وسماحة خلق رحمة وشفقة كف أذى ، قلب ينبض بروح واحدة، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يجمعهم هدف واحد حب الله، وغاية واحدة رضاء الله، إذا عطس فيهم أخ في الشرق شمته أخوه في الغرب وقال له يرحمك الله

· زمرة القلب الواحد.. تحتوي أفرادها بجانبهم المضئ والمظلم بإيجابياتهم وسلبياتهم، بفرحهم وحزنهم، بلحظات تألقهم وتقهقرهم ، وتوفر السند لأفرادها، فهي شعرة الميزان، ومركز الثقل ونقطة التوازن، وحبة القلب ومهجة النفس وروضة المحبين ونزهة المشتاقين في جنة الدنيا قبل جنة النعيم" لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"

· زمرة القلب الواحد أخيراً وليس آخراً، ذات فهم واحد مرجعه في المقام الأول كتاب الله وسنة رسوله، ثم تعاليم البنا، ومعالم قطب، وآراء الهضيبي، وأفكار المودوي، وعبر السباعي، وفقه دعوة مشهور، وأبجديات يكن، وتزكيات حوى، ومنطلق الراشد، وشروحات جمعه.


مسك الختام

هذه هي دعوة الإخوان لمن لم يعرفها جيداً، ولمن لم يقف على أعتابها، ولمن لم يدرك حقيقتها، هكذا هم الإخوان كانوا وسيظلون زمرة القلب الواحد، قد يقول قائل هذه مثالية، ولكننا نعتقدها حقيقة في دعوة الإخوان، ونقولها لإخواننا الذين نحبهم في الله والذين ملأوا الانترنت والإعلام ضجيجاً وصخباً حول الإخوان، كفاكم تشكيكاً في دعوتكم وطعناً في قيادتكم، وليكن موقفكم الالتفاف حول قيادتكم الجديدة والسعي للإصلاح والتغيير والتجديد من داخل البناء التربوي، فما كانت مساحات الإعلام ولا صفحات النت مجالا خصباً للتغيير التربوي المنشود، ولا زلنا نأمل في عودتكم المنشودة لحضن دعوتكم وإخوانكم، لتقدموا النصح من داخلها، ونختم بما قاله المؤسس رحمه الله " فاذكروا جيداً أيها الاخوة، أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثه محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاء صحابته من بعده، فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم علي الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقي لا انفصام له، وأخذتم بنور مبين وقد التبست علي الناس المسالك وضلوا سواء السبيل، والله غالب على أمره" والله أكبر ولله الحمد .


الجمعة، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٩

وقفات تربوية مع نهاية عام هجري

مقال سبق نشره أعيده للفائدة

مضى عام
ما أسرع انقضاء العام الهجري بأيامه وشهوره ، كيف مضى بهذه السرعة؟ كنا بالأمس نستقبله واليوم نودعه ، هل ذهبت بركة الأوقات فلم نشعر بها ؟ مضى عام كامل من أعمارنا ، وانسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته و أيامه ، مضى وكأنه شهر واحد ، مضى بحلوه ومره ، بأفراحه وأحزانه ، بسروره و وهمومه ، و بما فيه من اللذائذ والآلام، عبثَ فيه العابثون، وتلذذ فيه بالشهوات اللاهون ، وأجاد فيه الصالحون، وأخلص فيه العاملون ، فسوف يرى كلٌ بضاعتَه يوم التناد ، قالها تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى،وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى" ، مضى عام بكل ما فيه من إشارات تنبيه وتحذير ، أوراق التقويم ونحن نمزق أوراقها يوميا إشارة تنبيه ، دقات الساعة وهي تقول لنا إن الحياة دقائق وثواني إشارة تنبيه ، هلال الشهر في نموه واكتماله بدراً ثم ذبوله ونحوله إشارة تنبيه ، فصول السنة ومابها من تنوعٍ فيه عبرةٌ لمن يعتبر ، كل ذلك إشارات تنبيه ، تسألنا ماذا قدمنا في عامنا من أعمال صالحة ندخرها ليوم التلاق ، والحبيب صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالوقفة أمام المولى " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، و عن شبابه فيم ابلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه و فيم أنفقه ، و عن علمه ماذا عمل به " ، فسوف يسألنا الخالق عزوجل يوم الحشر عن أعمارنا ، هل أفنيناها في خدمة دينه ، أم أفنيناها في الراحة والغفلة والجدال ، وسيسألنا عن دعوتنا هل كنا من العاملين لها والداعين إليها ، أم من المشككين فيها والطاعنين في قيادتها ، وسيسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها في الطاعة والعبادة والحركة بدينه ، أم أبليناها في اللهو واللعب ، سنة كاملة مضت ، كم عملنا فيها من أعمال قد نسيناها، لكنها عند الله محفوظة، وفي صحائف الأعمال مرصودة، وغدًا نوفاها " يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" .

وقفة مع النفس
حدث كوني هام ، يقع مع وداع شمس آخر يوم من أيام ذي الحجة ، إنه انفتاح بوابة العام الهجري الجديد ، ، حدث يحتاج منا إلى وقفة تأمل قبل وقوعه ، هي وقفة جادة يسأل كل منا نفسه ، مادام الحساب على مثقال ذرة ، وعلى كل لفظ ، وعلى ما يحيك في القلب ، يقف الأخ مع نفسه وقفة صدق، فالصدق نجاة ، وليحاسبها فهو أرفق بها من يوم الحساب ، قالها الحسن البصري " ابنَ آدم إنك تغدو أو تروحُ في طلبِ الأربَاح؛ فليكن همّك نفْسَك؛ فإنك لن تربح مِثْلها أبدًا" من أجل ذلك ، نحتاج مع نهاية العام وبداية الجديد إلى وقفة محاسبة ، يقول عنها ابن القيم رحمه الله: "المحاسبة أن يميز العبد بين ما له وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه ؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود" ، هي وقفة نجيب فيها عن أسئلة كثيرة تدور ، تحتاج منا إلى إجابات ، كيف قضينا عامنا ؟ وفيم صرفنا أوقاته ؟ وكيف كانت علاقتنا بربنا ؟ هل حافظنا على فرائضه واجتنبنا زواجره ؟ هل اتقينا الله في بيوتنا ومجتمعنا ؟ هل راقبنا الله في عملنا وفي كل شؤوننا ؟ هل أخلصنا له في أعمالنا ؟ وهل فكرنا أن نجٌِد في حركاتنا ؟ وهل رفعنا راية أمتنا ؟ وماذا قدمنا لهذا الدين ؟ كم أعطيناه من أوقاتنا ؟ كم شخصا حببناه في الله وفي دعوته ؟ هل دافعنا عن دعوتنا وقيادتنا أم كنا عونا للإعلام والآخرين عليها ؟ وهل انضبطت حركتنا وأعمالنا وأقوالنا وكتاباتنا بضوابط الدعوة ؟ وكم مرة نصرنا إخواننا المستضعفين في الأرض والمعتقلين ظلما وزورا ؟ وكم حافظنا على أداء الصلوات جماعة في المسجد ؟ ما نصيب كتاب الله تعالى من القراءة والتدبر ؟ كم مرة كنا نختم في كل شهر ؟ أم لم نقرأه إلا في رمضان ؟ هل حفظنا منه شيئاً طوال هذا العام ؟ أكان همنا من دنيانا لقمة نأكلها، وشربة نشربها، ولباساً نلبسه، أو مكانة نبحث عنها ، أو جاها نتباهى به ، وهل كان همنا إضاعة وقتنا في لهوٍ مباح أو غير مباح؟ أم كان همنا معالي الأمور والدرجات العلى؟ أكنا ممن يقول ما لا يفعل؟ أ م ممن يعطي القدوة من نفسه ؟ وهل وهل وهل ؟ ماذا أردنا بكل ذلك، ومن أردنا؟ هل أردنا الله والدار الآخرة أم الصيت والسمعة وحب محمدة الناس ؟ هي وقفة من أجل مراجعة الحسابات، وتعديل المسار، وإصلاح النية، وتجديد العهد، وشحذ الهمة .

إليه راجعون
أخي الحبيب .. لعمرِ المرء طرفان، طرفٌ من قبل يوم مولِده ، وطرف من قبل يوم أجله ؛ فكلما انقضى عام ابتعد المرء عن يوم مولِدِه ، واقترب من يوم رجوعه إلى مولاه ، والمرء من يوم خروجه إلى الدنيا، وهو يهدم في عمرِه و ينقص من أجله ، والتقويم الذي نعلقه على حوائطنا، وهو مليء بالأوراق، وفي كل يوم نأخذ منه ورقة ، وفي نهاية العام لا يبقى منه إلا صورته ، شاهد على هدم العمر ، وهكذا عمري و عمرك يا أخي ؛ مجموعة أيام و ليالٍ ، كلما مضي يوم أو ليلة نقصت أعمارنا، ونقص رصيد أيامنا في هذا الحياة ، ثم تأتي لحظة المغادرة والرجوع إلى الله ، قالها الحسن البصري " يا ابن أدم إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك" ، فهي رجعة إلى الله لا محالة ، ووقوف بين يديه ومحاسبة ومساءلة ، فما حيلتك يومئذ ؟ لذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما ينصحنا " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" ، فإذا أصابك أخي الحبيب الفتور والضعف، وتثاقَلتْ نفْسُك عن الطاعة؛ فتذكر يومًا تقف فيه بين يدي الله لا ينفعك فيه إلا العمل الصالح ، وتذكر وصية الفضيل رحمه الله " تحسن فيما بقي يغفرْ لكَ ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخِذتَ بما مضى وما بقي، والأعمالُ بالخواتيم" ، ويقول لك ابن رجب رحمه الله : " يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه، إنما تفرح بنقص عمرك " ،ويقول أبو سليمان الدارني " من كان يومه مثل أمسه فهو في نقصان " ، وعن داود الطائي أنه قال " إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة ، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، فاقض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك " قال أحد السلف " كيف يفرح في هذه الدنيا ، من يومه يهدم شهره ، وشهره يدم سنته ، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله ، وحياته تقوده إلى مماته " .


حصاد عامك

أخي الحبيب .. يقول ابن القيم رحمه الله " السنة شجرة ، والشهور فروعها ، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها ، فمن كانت أنفاسه فى طاعة فثمرة شجرته طيبة ، ومن كانت فى معصية فثمرته حنظل ، وإنما يكون الحصاد يوم المعاد ، فعند الحصاد يتبين حلو الثمار من مرها " ،فقد كان بعامك :
· ( 1700) فريضة صلاة الجماعة سنويا ، بما يعدل 6018 ركعة - 5300 ركعة هي السنن الراتبة مع الوتر، ( 420) ركعة قيام ليل وتراويح وتهجد ، فكم صليت منها في جماعة ، وكم صليت منها في الصف الأول ، وما درجة خشوعك فيها ؟ وهل قربتك من الله ؟
· 92 يوما صيام الاثنين والخميس – 30 يوما صيام الأيام البيض – 9 أيام صيام ذي الحجة - صيام تاسوعاء وعاشوراء ، فكم يوما صمت منها وكم اغتنمت من فضلها ؟ والحبيب يقول :" ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً"
· 12 ختمة للقرآن ، فهل أتممتها ؟ وتدبرت فيها ؟ والختمة الواحدة تعدل 3,5 مليون حسنة .
· 130 ألفا من الصدقات الواجب عليك لقوله صلى الله عليه وسلم" كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس،…" فهل أديت ووفيت، أو سددت وقاربت، أو حتى عزمت ونويت ؟
· ذكر الله عز وجل " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيرا"
· 50 لقاء تربويا اسبوعا ، التي تحقق " هيا بنا نؤمن ساعة" ، إضافة إلى اللقاءات المجمعة ، فكم واظبت عليها ؟ وبماذا أفدت فيها إخوانك ودعوتك ؟ .
· 350 يوما تدعو فيها إلى الله وتأمر بمعروف وتنهي عن منكر ، وحبيبك يبين لك الفضل " من دعا إلى هدى فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " وقال أيضا " لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها "
· 50 إسبوعا تحقق فيها صلة أرحام وزيارة أقارب وبر والدين ، ومواساة وزيارة مرضى ، وقضاء حوائج المسلمين ،
فكم أدركت من هذه الأعمال ؟ وكم منها كان لله خالصا ولم تخالطه شهوة نفس أو منافسة للآخرين ، أو بحثا عن شهرة أو صخب إعلامي ، أو مجاراة للسفهاء ، ثم انظر إلى عملك كم حجمه ووزنه ،وكم أثره ، وقارن بين حسناتك وسيئاتك ، ثم انظر كم من الخير تركت أو حصلت ،وتذكر مقالة ابن مسعود رضي الله عنه " ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه ، نقص فيه أجلي ، ولم يزدد فيه عملي " .

دقائق غالية
أخي الحبيب .. لقد نبض قلبك في العام نحو 40 مليون نبضة بانتظام لا مثيل له ودقة متناهية ، كما شهقت فيه نحو 11 مليون شهقة ، وزفرت مثلها ، كل ذلك خلال أكثر من خمسمائة ألف دقيقة هي مجموع عامك ، ولله در القائل : دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فالواجبات أكثر من الأوقات ، والمسلم محاسب على كل ثانية من عمره ، والدقيقة من عمرك غالية وهي بالليل أغلى " دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة " ، وإليك بعض ما يمكن أن تنجزه من أعمال عظيمة خلال 5 دقائق من عمرك :
· تعيش مع القرآن : فتقرأ سورة الفاتحة 20 مرة ، أو سورة الإخلاص 40 مرة ، أو سورة تبارك ، أو الواقعة ، أو السجدة ، ، ولكل مما سبق أجر عظيم ، أو تقرأ ربع حزب من القرآن الكريم .
· تكون من الذاكرين الله كثيرا : فتقول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير" 50 مرة ، أو تقول " سبحان الله وبحمده" 200 مرة ، أو تقول" سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " 100 مرة، أو تقول "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 100 مرة ، أو تقول"لا حول ولا قوه إلا بالله "150 مرة، أو تقول "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" 60 مرة ، أو تصلي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 100 مرة ، ولكل واحد من الأقوال السابقة أجر عظيم مذكور في أحاديث صحيحة .
· تحقق التواصل المجتمعي : فتصل رحمك عبر الهاتف وتبر والديك ، أو تُسلِّم على مسلم وتسأل عن حاله ، أو تكتب كلمة طيبة وترسلها في رسالة SMS، أو ترفع يديك إلى السماء وتدعو لأهلك وجيرانك بما تشاء ، أو تشفع شفاعة حسنة لأخ ، أو تواسي مهموماً فتقضي له حاجته العاجلة ، أو تأخذ بيد شيخ كبير فتعبر به الطريق ، أو تعين مصابا فتسعفه للمستشفى ، أو تميط الأذى عن الطريق .
· تحقق التكليف الدعوي : فتأمر بمعروف أوتنهى عن منكر، أو تلقي خاطرة عقب الصلاة ، أو تنشر فكرة عبر حديث في مواصلات ، أو تدخل على النت فتدون كلمة طيبة في مدونتك ، أو تشارك بموضوع قيم في أحد المنتديات ، أو ترسل رسالة دعوية بالايميل إلى المجموعات البريدية ، أو تساهم في تصويت تنصر به دينك دعوتك ... الخ

من هنا نبدأ
أخي الحبيب .. مع نهاية مطاف العام ، وقبل نهاية الآجال ، وأنت تدخل من بوابة العام الهجري الجديد المشرعة أمامك ، وأنت تخطو أولى خطواتك ، لتبدأ بفتح صفحة جديدة في حياتك مع أول يوم فيه ، ولتكن صفحة بيضاء نقية ، صفحة بدايتها التوبة إلى الله ، و شعارها الدعوة إلى الله ، ومضمونها حب الخير للناس ، إنه عام هجري جديد على عملك شهيد ، نصحنا مع بدايته فضيلة المرشد العام الأستاذ عاكف قائلا : " ينتظركم عام من الجهد والعمل، فالمبشرات بين أيديكم، والأمل ينتظركم، فإلى المزيد من الثبات على منهجكم، وتقديم فكرتكم إلى العالم، وبذل كل ما تملكون من أجلها، لنكون على مستوى الغد المشرق لإسلامنا " ومن هنا ، ومع بداية العام ، فهذه بعض ما تريد منك دعوتك :
أولا : أن تتوب من ذنوبك ومعاصيك وتقصيرك وتفريطك في أوقاتك ، ولتذرف دموع الندم على مافرطت في جنب الله ، وعلى دعوة لم تضحي لها ولم تنصرها كما ينبغي ، فالبدار البدار بالتوبة ، ولا تجتر مرارة الماضي ، فعلى أطلال الماضي يمكنك أن تنهض بقوة ، فاجعل منها دفعة إلى الأمام ، و الحق بسفينة النجاة ، وكن نجما في سماء التائبين المنيبين المخبتين ، فهي عودة ظافرة إلى الله تنتصر فيها على أسباب الضعف .
ثانيا : أن تراجع أهدافك وتحددها بدقة وتضع أولوياتها ، وأن تتأكد من معرفتك بالطريق الموصل إلى رضوان الله وإلى نصرة دعوته ، وان تكون طموحا لتنال الأفضل منها ، فبادر وشمر ، وخطط ونفذ ، وان تختر طريقك ومنهجك بنفسك ، لا أن يفرضه عليك إعلام كاذب أو بلبلة مشككة أو طعن جارح من هنا وهناك ، فكن صلدا لا تحطمه الأهواء ، وغذ عقلك وقلبك بقيم دعوتك الربانية ، واحرص على الآخرة فهي الجوهر النفيس ،ولتكن همتك أعلى من قمتك .
ثالثا : أن تستفيد من أجراس الإنذار والتنبيه ، وإشارات التحذير الممتدة طوال العام ، وأن تتزود من مواسم الخير ، كي تستقيم على منهج الله ومنهج الدعوة ، وأن تحرص على ألا تخضعك الظروف المحيطة بك وبدعوتك مهما ساءت وألا تصرفك وفق هواها، بل احرص الأ تزيدك الأحداث إلا قوة وثباتا على الطريق ، ويقينا أن نصر الله آت .
رابعا : فليس أجمل في بداية العام الهجري الجديد ، من الحديث عن تجديد العهد مع الله ومع دعوته ، والوفاء بالبيعة مع الله ، فالدعوة بحاجة الى الأوفياء ، من أجل أن نشد من عزم الحادي إلى جنات النعيم ، فدعوتك بحاجة منك إلى " إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، ووفاء ثابت لا يعدو عليه وتلون ولا غدر ، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له ، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره " فاعقد العزم وبادر وسابق مرددا "وعجلت إليك رب لترضى " متذكرا قولة الحسن البصري "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره توقف" .

الأحد، ١٣ ديسمبر ٢٠٠٩

عزاء واجب

توفيت فجر اليوم عمة الأخ الحبيب أحمد صاحب مدونة " بحلم "
لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شئ عنده بمقدار
فلتصبر ولتحتسب أخي الحبيب
وإنا لله وإنا إليه راجعون
اللهم اغفر لها و ارحمها وسامحها واعف عنها
وتجاوز عن سيئاتها ووسع مدخلها وأكرم وفادتها عليك
اللهم ألهمها حجتها وثبتها عند السؤال
اللهم يسر حسابها ويمن كتابها وثقل موازينها وارفع درجاتها
وشفع فيها نبيك ومصطفاك

الخميس، ١٠ ديسمبر ٢٠٠٩

أحبها من كل روحي ودمي



تهيئة

"والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني لما خرجت" بهذه الكلمات عبر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكانة الأوطان في ديننا ، وكيف أن حب الأوطان من الإيمان، ولقد عمق الإسلام حب الأرض والوطن في نفوس المسلمين، فكان الانتماء للأرض والوطن جبلة جعلها الله في خلقه، وقد حافظ الإسلام على بقاء الطائفتين المؤمنتين (المهاجرين والأنصار) وعلى استقلالهما وجعل بقاءهما صورة من صور نصرة الإسلام وخدمة الدين، بل وحافظ على بقاء طائفتي الأنصار كما هما ( الأوس والخزرج) وكان يبرزهما في معارك الإسلام الخالدة برايات مختلفة لإحداث نوع من التنافس الشريف لخدمة دين الله، وحينما حدث نوع من التنازع بين المهاجرين والأنصار، وقف رسول الله لهما موجهاً ومربياً ومعاتباً " أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم" وختم الحبيب رسالته التربوية للمسلمين بقوله "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم‏"


وطنيتنا التي نحبها

كثيرا ما يتغنى الناس بوطنيتهم وأنهم فداء للوطن، ولكن أي وطن وأي وطنية؟ إن الوطنية التي يريدها الإسلام ويحرص عليها، هي وطنية الحنين التي تعني حب الأرض والحنين إليها والانعطاف حولها حال الغربة، وهي التي قال عنها الحبيب بعد سماعه وصف مكة وهو في الغربة" دع القلوب تقر يا أصيل"، ويقر الإسلام كذلك وطنية الحرية والعزة والتي تعني العمل بكل جهد لتحرير أوطاننا من الغاصبين المحتلين وتوفير استقلاله وألا نجعل لهم سلطاناً علينا، ويقر الإسلام وطنية المجتمع والتي تعني تقوية الرابطة بين أبناء البلد الواحد لما فيه مصالحهم، ويقرالإسلام وطنية الفتح والتي تعني أن ننطلق بإسلامنا فاتحين مشارق الأرض ومغاربها حاملين نور الإسلام للبشرية جمعاء" حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله"، لكنه في المقابل يرفض وطنية الحزبية والتي تعني تقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة تتراشق بالسباب وتكيل التهم و يكيد بعضها لبعض, و تتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء، و شكلتها الغايات و الأعراض، و فسرتها الأفهام و فق المصالح الشخصية، وعدونا يستغل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه العصبية الجاهلية بيننا اشتعالاً، كي يفرقنا في الحق ويجمعنا على الباطل، وهذا مايحدث بيننا بين الحين والآخر، حينما نحول عدونا الحقيقي إلى صديق، ونحول أبناء الوطن الواحد إلى أعداء، ولقد بين الإسلام أن حدود وطنيتنا إنما تنبع من عقيدتنا، فكل بقعة فوقها مسلم يقول"لا إله إلا الله محمد رسول الله " فهي من أوطاننا والمسلمون فيها من أهلنا و إخواننا، لهم ما لنا و عليهم ما علينا، ولله در القائل " يا أخي في الهند أو في المغرب.. أنا منك أنت مني أنت بي.. لا تسل عن عنصري عن نسبي .. إنه الإسلام أمي وأبي .. إخوة نحن به مؤتلفون .


قوميتنا التي نحميها

أما قوميتنا التي يريدها الإسلام ويحرص عليها، فهي قومية المجد والتي تعني ان يسير الناس على نهج أسلافهم في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة، والإسلام لا يمنع تلك القومية "الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"،ويقر الإسلام أيضا قومية الأمة إذا قصد منها أن عشيرة الرجل أولى بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده ودعوته، لكن الإسلام يرفض القومية الجاهلية العدوانية التي تنادي بإحياء عادات جاهلية والتنادي بها والاعتزاز بجنسها على حساب رباط الإسلام وعقيدته، والتي تعني أن يعتز كل بجنسه ويعتدي على الآخرين، وأن يتناحر الإخوة المسلمون فيما بينهم تحت دعاوى جاهلية( فرعونية – عربية – فينيقية – بابلية – بربرية .. إلخ )، فهذا هو المرفوض في الإسلام، وتلك القومية لا يقبل بها، وما أروع ما قاله رسول الله "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، والإسلام حينما ينادي بذلك لا ينكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، بل يحث على أن تكون تلك الخصائص وهذه المميزات فيما يخدم الدين ويناصره لا أن تكون مدعاة للتعصب المقيت .


مصر التي في خاطري

إن انتماءنا لمصر الحبيبة انتماء فخر واعتزاز، وانتماء حب ووفاء، وانتماء تضحية وبذل وعطاء، إنه انتماء الحب والشوق والحنين، نهتف في غربتنا عنها مع القائل " ياما لفيت سواح متغرب.. وأنا دمي في حبك متشرب.. أبعد عنك قلبي يقرب .. ويرفرف على النيل عطشان" فتحن قلوبنا شوقاً إليها، ونرتمي في أحضانها عند العودة، ولكنه انتماء لا عدوان فيه ولا تعدٍ ولا تعصب ولا جاهلية، نحبها من كل قلوبنا، ونحب معها كل بقعة أرض فيها عربي ومسلم موحد لله، هي مصر التي علمتنا أن نحب الوطن الأكبر، وأن نردد مع القائل " وطني يا زاحف لانتصاراتك.. ياللي حياة المجد حياتك..في فلسطين وجنوبنا الساهر..ح نكملك حرياتك.. إحنا وطن يحمي ولا يهدد..إحنا وطن بيصون ما يبدد..وطن المجد الوطن العربي"، هذه هي مصر التي في خاطري وفي فمي، هذه هي مصر التي ارتفعت فوق هامات الأمم، والتي استحقت لقب أم الدنيا، والتي يعشقها كل عربي وكل مسلم، وتهوى إليها الأفئدة والقلوب، هي مصر المؤُمنة كما وصفها الشاعر السوداني.


مصر التي أحبها

نعم مصر في خاطري وفي فمي، وأحبها من كل روحي ودمي، وأفديها بروحي وأهلي وولدي ومالي، ولكن مصر التي أحبها لها معالم وسمات، لا بد أن نبينها كي لا تختلط الأوراق، وكي لا يصبح حبها نوعاً من دعاوى الجاهلية المقيتة، إن مصر التي أحبها من كل روحي ودمي هي :

· مصر المذكورة في القرآن بخيرها ونعيمها " ادخلوا مصراَ فإن لكم ما سألتم"، مصر الأمن والأمان " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، مصر التي مدحها الحبيب بقوله " خير أجناد الأرض" ، مصر التي دخلها عمرو بن العاص فاتحاً وهو يقول " لسنا على غارة نغيرها بل نفوس نغيّْرها"،

· مصر الإسلام التي قادت فتوحاته ومعاركه الحاسمة عبر التاريخ، مصر سيف الدين قطز والظاهر بيبرس اللذين قاداها لتحرير الأمة من الزحف التتري الذي أباد الأخضر واليابس وأسقط الخلافة العباسية ، مصر شجرة الدر التي أبت إلا أن تكون راية الإسلام مرفوعة فقادت الجيوش لصد الحملة الصليبية على مصر ، ومصر صلاح الدين الأيوبي الذي أعادها للسنة وأوقف الزحف الشيعي عنها ممثلا في فلول الدولة الفاطمية، وقادها لتحرير بيت المقدس من دنس الصليبين، و مصر الإرادة الحديدة التي حولت الهزيمة والإنكسار إلى عزيمة قوية وقادت جيشها بصيحات التكبير إلى أعظم انتصار على أقوى رابع قوة في العالم وحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وعبرت أكبر ساتر ومانع بحري في العالم .

· مصر الحضارة والتاريخ والتي بها ثلث آثار العالم، مصرالإهرامات الخالدة بخلود شعبها، مصر أبي الهول بشموخه، مصر معابد الكرنك وحتشبسوت وأبو سمبل، مصر مكتبة الإسكندرية الشاهدة على عمقها الثقافي .

· مصر جامعة الأزهر قلب الإسلام النابض، وقلعة العلم الشرعي في العالمين العربي والإسلامي، والتي أنارت بعلومها المشارق والمغارب، وكانت الرائدة في الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والقراءات العشر، وتخرج منها الملايين من أبناء العالم الإسلامي، والتي يدرس بها سنوياً أكثر من 30 ألف طالب مسلم غير مصري، الأزهر الذي كان حامي حمى الإسلام في حزام الصحراء الأفريقي وقلب إفريقيا .

· مصر جامعة القاهرة، تلك القبلة العلمية التي يقصدها طلاب العالم العربي والتي تخرج منها أكثر من مليون طالب عربي، مصر العروبة التي كانت تبتعث مدرسيها لتعليم اللغة العربية للدول التي كانت مستعمرة حتى لا تضمحل لغة القرآن، وكانت بعثاتها التعليمية ولا زالت منارات هداية وتثقيف وتربية وتعليم للأجيال الناشئة في العالم العربي، حتى لا تجد عربياً كبير السن إلا ويقول "علمني ورباني أستاذ مصري" .

· مصر رائدة الحركات التربوية والإصلاحية بدءاً من الأفغاني ومحمد عبده ومروراً برشيد رضا والكواكبي و البنا، ومصر التي قادت حركات التحرر ضد الاستعمار ومن أرضها انطلقت الثورات العربية، مصر التي كانت بإشارة منها تحرك الشعوب العربية والإسلامية، والتي كانت تصحح لهم البوصلة والمسار، ومصر التي سعت الدول الاستعمارية للسيطرة عليها من أجل إحكام قبضتهم على العالم العربي .

· مصر التي أنجبت العلماء الذين ينيرون العالم بعلومهم، ومصر التي أنجبت اكثر من 300 ألف عالم يخدمون العلم حاليا في كل بلاد العالم الغربي، منهم أكفأ أطباء العالم ممن اخترعوا تقنية تشخيص أمراض الكبد ، وأكفأ جراحي القلب وأكفأ جراحي فصل التوائم ، مصر قائدة العالم العربي نحو الثقافة والأدب والطباعة والصحافة وشتى العلوم والفنون .

· مصر مهد الصناعة الحديثة في العالم العربي، مصانع النسيج والحديد والصلب والسيارات ومصانع التسليح، مصر التي أنشأت أكبر سد في العالم في القرن العشرين السد العالي ، والتي أنشأت ثاني شبكة سكة حديد في العالم ، والتي كانت أول دولة تقيم شبكة مترو أنفاق في أفريقيا والشرق الأوسط

· مصر صاحبة أول دستور مكتوب في العالم منذ قرنين من الزمن ، ومصر التي وضع أساتذة القانون بها أغلب دساتير الدول العربية، والتي لحن فنانونها أناشيدهم الوطنية، والتي صمم فنانوها أعلامهم الرسمية، والتي قام مهندسوها ببناء أولى محطات الكهرباء لديهم، والتي قام فنانوها وأنشأوا لهم أولى محطاتهم الإذاعية والتليفزيونية، والتي قام أساتذتها بتأسيس جامعاتهم وكانوا عمداءها الأوّل .

· مصر الانتفاضة التي انتفض شعبها نصرة لإخوانه الفلسطينين في غزة حينما شن العدو الصهيوني الحرب المجرمة عليهم، فقدم الشعب لهم من قوته وقوت أولاده أعز ما يملك، وكانت حملات الإغاثة التي لم تتوقف حتى اليوم، نصرة لإخوانهم المحاصرين هناك، مصر التي ينتفض شعبها مرددا إسلاماه، نصرة لكل ما هو قومي وعربي و إسلامي، ومصر التي انتفض شعبها مطالباً بالإصلاح والتغيير، وشارك في انتخابات 2005 ورفض إعطاء صوته للمفسدين وأعطاه للمصلحين، مصر المنتفض شعبها في كافة المجالات مطالباً بالحقوق والحريات عبر النقابات والاتحادات.

· مصر مينا وتحتمس وأحمس، مصر يوسف الصديق وموسى الكليم وابراهيم الخليل، مصر ابن حجر والليث بن سعد والسيوطي، مصر شلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق، مصر حسن البنا وقطب والتلمساني، مصر الغزالي والشعراوي والقرضاوي، مصر الطهطاوي وطه حسين ونجيب محفوظ ، مصر مجدي يعقوب وزويل والبرادعي، مصر محمد فريد ومصطفى كامل وسعد زغلول ، مصر محمد علي و نجيب وناصر والسادات، مصر عبد الباسط والمنشاوي والحصري.


هذه هي مصر التي أحبها، مصر أم الدنيا بحضارتها وتاريخها، مصر هبة الرحمن وقلعة الإيمان وعروس الإسلام، مصر درع العروبة والوطنية، مصر التاريخ والجغرافيا، مصرالماضي والحاضر والمستقبل، مصر كنانة الله في أرضه، مصر السيف والرمح والقرطاس والقلم، مصر المصحف والإنجيل والهلال والصليب، مصر الوحدة الوطينة والقومية والعربية والإسلامية، مصر الفنون والآداب والصحافة والإعلام، مصر الريادة والقيادة والزعامة للعالمين العربي والإسلامي، هذه مصر بلادي التي لها حبي وفؤادي

مصر التي في خاطري وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي .

ولنا وقفة في مقال آخر بإذن الله عن (مصر التي لا أحبها )