السبت، ٩ يونيو ٢٠٠٧

من سنن الله في تربية الأمم


"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب "

سبب النزول :

قال قتادة والسدي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى ، وقيل نزلت في حرب أحد .
وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر ، لأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله وأسر قوم النفاق ، فنزلت الآية الكريمة تطييبا لقلوب المسلمين .
وأيا ما كان سبب النزول فإن الآية الكريمة تقرر سنة من سنن الله في حياة الأمم .

الأمم بين طور القوة وطور الضعف :

ذلك أن كل أمة بين طورين لا ثالث لهما يخلف كل منهما الآخر ن متى توفرت دواعيه وأسبابه ، هذان الطوران هما طور القوة وطور الضعف .
فالأمة تقوى إذا حددت غايتها ، وعرفت مثلها الأعلى ورسمت منهاجها ، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل مهما كلفها ذلك من تضحيات .
إذا صدقت عزيمة الأمة وقويت إرادتها في ذلك فقد قويت قوة مطردة لا تزال تزداد حتى تتنسم غوارب المجد ، ولا يمكن لأية قوة في الأرض أن تضعف هذه القوة أو تنال من تلك الأمة وهي على هذا الحال .
ولا تزال الأمة كذلك بخير حتى تنسى الغاية ، وتجهل المثل ، وتضل المنهاج ، وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد والتضحية ، وتهن العزائم وتضعف الارادات ، وتنحل الأخلاق ، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب ، وحينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب دبيب السقم الاجتماعي ، ولا تزال تضعف حتى تتجدد أو تبيد .

سبيل التجديد وسبل الإبادة :

وسبيل التجدد : أن يتيح الله لها الطبيب الماهر فيهتدي إلى الدواء الناجع ، وتتبعه الأمة في تناول هذا الدواء فتموت جراثيم المرض وتعود إليها القوة ، وتلك مهمة المصلحين ، والقادة مصابيح الهدى وشموس النهضات بهم تنجلي كللا فتنة عمياء .
وسبيل الإبادة أن تسدر الأمة في غيها ، وتظل هائمة على وجهها لا تنصت لناصح ، ولا تسمع لمرشد حتى تحين ساعة الفناء .
هذه السنة الربانية في بناء الأمم تقررها هذه الآية الكريمة ، فلا بد للمصلحين المجاهدين في سبيل إحياء الأمم وإعادة قوتها ومجدها أن يصمدوا لكل خطب ، ويحتملوا آلام الجهاد حتى تتحقق غايتهم ، فيكون جزاؤهم النصر ، ألا إن نصر الله قريب ، ولم تتخلف هذه السنة أبدا في قديم ولا حديث حتى مع أفضل الرسل وخير الأنبياء وصفوة الخليقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين ، والله تبارك وتعالى يقول " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " .
وفي الصحيح أن هرقل حين سأل أبا سفيان عن رسول الله قال : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ، قال : فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال : سجالا يدال علينا و ندال عليه ، قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة . " وفي الصحيح عن خباب بن الأرت قال : قلبنا : يا رسول الله ، ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو اله لنا ، فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتم الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذب على غنمه ن ولكنكم قوم تستعجلون " .
ولقد تمت نبوءة رسول الله فتم الأمر ، وظهر الدين ن وقويت الأمة ، وأدال الله للمسلمين من أعدائهم .
وفي حديث عتبة بن غزوان : " لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ما لنا من طعام إلا الدقل وحسك السعدان حتى تقرحت أشداقنا ، ولقد شققت نمرة – عباءة – بيني وبين سعد ، وهاأنذا أنظر فلا أرى منا إلا أمير قطر أو مصر " .
إن في ذلك لعبرة لأمم الإسلام في نهضتها الحالية لو أرادت أن تعتبر ، ولا مجال لليأس ، وهذه سبيل القوة ، حددوا الغاية ،و اعرفوا المثل ، وارسموا المنهاج ، واصبروا على الجهاد ، وأعدوا له عدته ، والنصر من وراء ذلك إن شاء الله " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " .

====-
خواطر من وحي القرآن .. من سلسلة من تراث الإمام البنا –للأستاذ جمعه أمين