الثورات التي قامت في العالم العربي قُطفت ثمارها لغير إرادة الشعوب؛ ففي مصر قامت ثورة التغيير، ظاهرها الإصلاح والتمسك بالقيم بعد الملك فاروق، والشعب المصري كان يريد الإسلام على وقْع إصلاح الإمام محمد عبده وشيخه جمال الدين الأفغاني والإمام البنا، وقال السارقون للثورة: نحن على خط الإخوان، وذهب عبد الناصر ورفاقه إلى قبر الإمام البنا، وكتبت مجلة (التحرير) على صدر غلافها (عدد44- بتاريخ 16/2/1954م) تعليقًا على صورةٍ لعبد الناصر يقف على قبر الإمام البنا في ذكراه الخامسة، والمشهد مؤثر فعلاً.. يُوحي بالخشوع والإجلال والتأثر العميق، ويزداد الخشوع والتأثر حين تسمع خطاب جمال عبد الناصر على قبر الإمام البنا، وكلمته التي يقول فيها: "إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها، أذكرها وأرى بينكم مَن يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام، ويذكر في نفس الوقت الآمالَ العظام التي كنا نتوخَّاها ونعتبرها أحلامًا بعيدة.. نعم أذكر في هذا الوقت وفي مثل هذا المكان كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية والأهداف السامية؛ لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا.. ثم قال: وأُشهد الله أني أعمل- إن كنت أعمل- لتنفيذ هذه المبادئ، وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها".
وقام صلاح سالم من بعده فقال: "إن هذه الأخلاق العالية والصفات الحميدة قد اجتمعت وتمثلت في شخص أستاذٍ كبير، ورجل أُجلُّه وأحترمه، واعترفَ بفضله العالم الإسلامي كله، وقد أحبه الجميع من أجل المثل العليا التي عمل لها، والتي سنسير عليها إلى أن يتحقَّق لنا ما نريده من مجد وكرامة في أخوةٍ حقيقية وإيمان أكيد، رعاكم الله، ووحَّد بين قلوبكم وجمع بينكم على الخير".
فلما تولَّى الضباط الأحرار الحكم كادوا للإخوان ولفَّقوا لهم التهم وقتلوهم على أعواد المشانق, وأدخلوا الألوف منهم السجون بأحكام قاسية بلغت 25 عامًا مع الشغل والنفاذ.
وفي مشهد آخر أقام مجلس قيادة الثورة بعد قيامها في مصر حفلاً تكريميًّا للأستاذ سيد قطب، فوقف سيد قطب وألقى كلمةً مرتجلةً وسط تصفيق المصفقين وهتاف الهاتفين له, وقال: (إن الثورة قد بدأت حقًّا, وليس لنا أن نثني عليها؛ لأنها لم تعمل- بعد- شيئًا يُذكر, فخروج الملك ليس غاية الثورة, بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام).
ثم قال سيد: (لقد كنت في عهد الملك, مهيئًا نفسي للسجن في كل لحظة, وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضًا, فأنا في هذا العهد, أهيِّئ نفسي للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل).
وهنا وقف جمال عبد الناصر, وقال بصوته الجهوري ما نصه: (أخي الكبير سيد, والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا جثثًا هامدةً, ونعاهدك باسم الله, بل نجدد عهدنا لك, أن نكون فداك حتى الموت)، وصفَّق الناس تصفيقًا حادًّا متواصلاً, مع الهتاف المتكرر بحياة سيد قطب، ولم يمضِ وقت طويل حتى قتله وعلَّقه على أعواد المشانق.
ويجدر بنا أن نحدد في عجالة بعض البنود والملامح التي يجنح إليها السرَّاق للثورات:
1- تخدير الثورة بإنامة الثائرين وإيهامهم بأن الهدف قد تحقق بطرد شخص، أو تعهد جهة، أو تحقيق مطلب من المطالب, دون تحقيق الأهداف كلها ودون حراستها.
2- مدح الثائرين ونفاقهم، وإدخال الغرور في أنفسهم وإيهامهم أنهم أعلى من الأمة، وينبغي أن تكون لهم مميزات و... و... و...، وكان الأولى أن يكونوا مثلاً في الأقوال والأفعال.
3- بذر العداوات وشن الفتن بين الثائرين, وإيغار صدور بعضهم على بعض.
4- إنهاء الحريات بزعم حماية الثورة من أعدائها، وتخطِّي القوانين، وخلق طبقة متسلطة بدعاوى متعددة.
5- الالتفات إلى الصغائر, وترك الكبائر وعدم مراعاة المصالح, والمراهنة على الخاصة وترك المراهنة على الشعوب.
6- تقييد حرية الإعلام، وحصره في مدح الثورة وأفرادها، ومطاردة المعارضين.
7- تنميط النظام التعليمي، وجعله سبيلاً لغسل الأدمغة، وتكوين الأجيال على فكر معين، وقصرهم عليه، وادِّعاء أن الخير كل الخير في ركابهم.
8- تقييد الإبداع الأدبي والفني بقيود تقتله، وتحدُّ من انطلاقه، ووضع الكثير من الخطوط الحمراء في طريقه.
9- تنحية الشعب وتهميشه وعزله عن المشاركة في نهضة الأمة، وحمل مسئوليتها، وانتخاب كوادرها الفاعلة، أو عزلهم إذا دعت الضرورة.
10- قمع الثورات، وعدم الالتفات إلى مطالب الشعب؛ بحجة الحفاظ على مصالح الأمة.
11- الغرور بالأعداء, أو التعويل عليهم وخوفهم, دون التعويل على الأمة.
12- محاولة التحدث باسم الثورة من قبل المناهضين لها والقفز عليها بدعاوى مختلفة.
13- استمرار الاستعانة بالمخلوعين من النظام البائد، ومشاورتهم في أمور البلاد.
14- عدم محاكمة المفسدين الذين سرقوا مصر ومصادرة أموالهم التي نهبوها.
15- ترك قيادات الشرطة والمتنفِّذين من أمن الدولة الذين أجرموا في حق الشعب طوال 30 عامًا بدون عقاب، وضياع دماء الشهداء هدرًا؛ ما يورث احتقارًا للذات والجرأة على الأحرار فيما بعد.
16- ترك البلاد في يد العسكر وبدون مجلس قيادي مدني لتسيير الأمور؛ بدعوى الثقة وغيرها.
17- إثارة النزاعات الهامشية والصراعات الحزبية التي تشغل الناس وتلفتهم عن الحق المراد.
18- عدم تطهير أجهزة الدولة الرئيسية التي سخِّرت لخدمة المفسدين؛ لأنهم صانعوها.
19- استمرار الأحكام العرفية والالتفاف على الحرية العامة.
20- عدم المسارعة إلى بناء نظام ديمقراطي حقيقي، يضمن عدم التسلُّط على الشعب مرةً أخرى.
21- مجاملة الفاسدين بعدم استرداد ثروات الأمة المنهوبة خلال النظام البائد.
22- محاولة ترقيع الدستور وعدم انتخاب جمعية تأسيسية لإنشاء دستور جديد لتوزيع السلطات وتقليص صلاحية الرئيس, ومراجعة القوانين المكملة للدستور.
23- عدم إعادة النظر في أحوال الموظفين العاملين بالدولة, وتحسين المرتبات والأجور.
24- ترك جهاز الشرطة بدون تأهيله تأهيلاً جديدًا ليوافق شعار (الشرطة في خدمة الشعب)، وليس (في خدمة النظام).
25- ترك الإدارة المحلية بؤرةً للفساد والتجاوزات والتدخلات للقوى المستغلة.
26- ترك الإعلام كما هو عليه، يعاني من الفساد وعدم المصداقية, ومنفصل عن الأمة وموجَّه للانحراف, ولا يتمتع بالحرية والشفافية.
27- السماح للتدخلات الأجنبية وعدم الحذر من الوقيعة بين فصائل الأمة المختلفة، ونحن نعرف قديمًا حكمة الاستعمار (فرق تسد).
28- المطالبة بإطالة الفترة الانتقالية وعدم الإسراع في نقل السلطة إلى الشعب، ومحاولة صناعة فرعون جديد بصلاحيات مطلقة.
29- التشكيك في القدرات وعدم منح الأشخاص الثقة في النفس، وعندي في هذا المقام حديث نابليون بونابرت، حين قيل له: كيف استطعت أن تولد الثقة في جيشك؟ قال: كنت أرد على ثلاثةٍ بثلاثة:
من قال لا أقدر أقول له حاول
من قال لا أعرف أقول له تعلم
من قال مستحيل أقول له جرب
30- محاولة إقصاء الفصيل الفاعل الذي ينتمي إليه الشباب الواعي، الذي يكون رصيدًا داعمًا للثورة وللحضارة وللنهضة المستقبلية.
31- محاولة انتزاع الثورة من قاعدتها الجماهيرية، وتخويفها من كل من له جمهور منظم أو مستعد لحمل الأمانة ووصمهم بالانتهازية.. إلخ, وهم بذلك يبتعدون عن جمهور الأمة، ويفرضون الوصاية عليها، ويكبتون حريتها في الاختيار.
32- هذا في رأيي ما يهيِّئ لإفساد الثورات، ويؤدي للقفز عليها وسرقة نتائجها، ويجعلنا ندور في حلقة مفرغة، ونرجع بعد جهد إلى نقطة الصفر, نسأل الله البصيرة في الأمور والسداد في الرأي.. آمين آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق