تلقيت بالأمس خبر وفاته، وقد كنت أعيش الأيام الأخيرة في كنف الدعوة له بأن يحفظه الله وأن يخفف عنه محنة مرضه وأن يرحمه برحمته الواسعة، تلقيت الخبر وكأني أتلقى خبر وفاة والدي، فقد كان نعم الوالد والمربي والشيخ والمعلم والقائد، إنه الحاج محمود شكري رحمه الله فارس الدعوة بحق، ومربي الأجيال وأستاذ الدعاة وقدوة الإخوان العملية وصاحب الفضل الأكبر على إخوان اسكندرية فهو بحق أبو إخوان الإسكندرية ومؤسسهم ومربيهم وراعيهم، وهو مربي كل قيادات الإخوان الحاليين بالإسكندرية، هو المؤسس بعد المؤسس، هو الزارع لنبتة الإخوان في تلك المدينة الجميلة مع رفيق دربه الحاج عباس السيسي رحمه الله، هو الفارس والمجاهد الجسور والشهيد الحي والقائد الرباني والمربي الحاني، نحسبه ممن قال الله فيهم "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً" ، ونحسبه ممن قال فيهم حبيبنا صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة".
بكاء القلب
كيف نبكيك يا شيخنا ؟ وبماذا نبكيك ؟ أنبكيك بدمع العين أم بقطرات الدم؟ أنبكيك بحرقة القلب أم بلوعة النفس ؟ وهل نبكي فيكم ياشيخنا الوالد الحنون أم نبكي المربي الرباني أم نبكي المعلم الشفوق أم نبكي القائد الحكيم أم نبكي رجل البر والإحسان أم نبكي صاحب الدعوة الحريص على هداية الناس، أم نبكي مربي الأجيال ومعلم الناس الخير، أم نبكي الصابر المحتسب أم المخلص الخفي التقي، أم نبكي صاحب الذوق الرفيع والخلق الجميل؟، ياشيخنا ونحن نودعك لا نملك إلا ان نقولها بقلب مكلوم ونفس راضية بقضاء الله وقدره "إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا شيخ محمود لمحزونون".
وترجل الفارس
بعد رحلة معاناة مع المرض ترجل الفارس الجسور وهو يحمل فوق كاهله قرابة ال90 عاماً، وترجل الفارس الجسور بعد رحلة مع الدعوة استمرت 70 عاماً كان خلالها نموذج الإخوان المسلمين العملي الذي تجسدت فيه كل أركان البيعة نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله، فكانت حياته في الدعوة عامرة بالفهم الصحيح لهذه الدعوة، والإخلاص النقي، والعمل المتواصل، والجهاد الشامل، والتضحية العزيزة، والطاعة الواعية، والثبات الفريد، والتجرد المتميز، والأخوة العالية، والثقة المتناهية، وترجل الفارس حاملاً معه تاريخاً حافلاً من الإرادة القوية والوفاء الثابت لهذه الدعوة التي وهبها نفسه وبيته وأولاده وماله، وترجل الفارس بعدما قدم لنا صفحات ناصعة من الجهاد والتضحيات في سبيل الفكرة والدعوة التي ينتمي لها، فإلى جنات الخلد يا شيخنا .
جماع الخير
كان شيخنا رحمه الله جماعاً للخير كله، كأن الله ساق له الخير بين يديه، اجتمع له من العمل بالبحرية قمة الانضباط العسكري المدهش والجندية الحقة، واجتمع له من صحبة الإمام البنا قيم التربية الصحيحة وأخلاق المربي الشفوق الرحيم، واجتمع له من محن السجون والاعتقالات أروع معاني الصبر والثبات والصدق في الانتماء لهذه الدعوة، واجتمع له من ساحات العمل والجهاد خبرات تربوية ودعوية أهلته ليكون القائد المحنك ، فكان في ميدان الدعوة النموذج الذي يحتذى به، وكان كثيرا ما يردد مقولته المشهورة" ليست العبرة بمن سبق وإنما العبرة بمن صدق"، وقد كان رحمه الله من الصادقين في انتمائهم لدعوته ومن المخلصين لها ومن الأوفياء الأتقياء، وكان رحمه الله صورة جامعة للخير كله، يراه الإخوان في كل ميدان قدوة عملية لا يتكلم كثيراً، يربي بسمته الرباني وصفاته العملية وانضباطه المتميز، كان رائداً في جمع القلوب حوله بدماثة خلقه وتواضعه الجم وذوقه الرفيع وحسن أدبه، تأسرك رباطة جأشه وقوة شخصيته وحكمة قيادته، تشعر معه أنك تعيش في زمن الصحابة الكرام، في تفقده لإخوانه وتواجده بينهم في كل مناسبة، في ربانيته العالية وشفافية نفسه ورقة مشاعره، وإخلاصه وتفانيه، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله .
دروس عملية
شاءت إرادة الله أن أقترب من شيخي في فترات عديدة ومراحل مختلفة من حياتي، وكان لها كبير الأثر في بناء نفسي، لعل أول هذه المواقف في معسكر أبي يوسف في نهاية السبعينات، ولم نكن نعرفه من قبل ولكن كنا نراه في كل جنبات المعسكر روحا حية وثابة شابة، لا يتكلم كثيراً ولكنه يترجم الدعوة بسلوكياته ولمساته ونظراته ومشاعره وأحاسيسه، فتعلقت قلوبنا به وبغيره من قيادات الإخوان الذين عشنا معهم خلال المعسكر، فكانت صحبته في المعسكر أعظم درس تربوي لا زال أثره باقياً في النفس، وفي بداية الثمانينات ساقتني الأقدار للعمل معه في دار الدعوة، فكانت الملازمة اليومية له والتعلم منه عن قرب، وكانت دروس المعايشة التربوية العملية، فتعلمت منه حب الدعوة والالتزام بها والانضباط لها ، وتعلمت منه نهم تحصيل العلم الشرعي والدعوي، وتعلمت منه الانضباط والسمع والطاعة ودقة التنظيم، تعلمت منه روح الحب والأخوة التي كان يغمرنا بها ويغمر بها كل من كان يأتيه في المكتبة للسلام عليه أو الاستشارة أو الاستئذان في أمر ما، وفي لقاء فريد وجدت أخي المسئول عني يحدد لي موعداً هاماً فإذا أنا مع شيخي فكان اللقاء أسئلة حائرة منا وإجابات وافية منه، فكان تعميق الفهم الصحيح وتصحيح المفاهيم المغلوطة وتثبيت أركان الدعوة في النفوس، ولكني حرمت من صحبته كثيراً نظرا لسفري خارج مصر، وكان في سفري درس آخر منه حيث خيرت بين السفر مع الإخوان وبين السفر مع خالي بناء على رغبة أمي رحمها الله، فقال لي" بر بوالدتك وحقق لها رغبتها " كي يرفع عني حرج عدم الالتزام بالسفر مع الإخوان، وحينما عدت من هذا السفر الأول مع خالي ، عرض علي السفر مرة ثانية مع إخواني وقد كان، وأذكر له موقفاً لن أنساه له حينما أعانني في زواجي بتوفير مال احتاجه لشراء شقة الزوجية، وكان صبره على في سداد هذا المال، ومن المواقف المؤثرة في نفسي في الثمانينات حينما أحضرت أنشودة "يا معشر الإخوان لا تترددوا "لمصر لأول مرة ودربت عليها بعض شباب الإخوان وكانت في عرس أخ حبيب لي، فنظرت إلى شيخي أثناء الأنشودة فوجدت الدمع منه باكياً، وحينما قام ليهنئ العريس بكى وقال تكفي كلمات النشيد ثم جلس، ولازلت أذكره حينما كنت أمر عليه كل إجازة من سفري وأحمل له سلام الإخوان فكان يذكرهم واحداً واحداً ويحملني در السلام إليهم، وكان العجب منه حينما يسألني عن أهلي وأولادي دائماً متفقدا أحوالهم، وحتى بعد استقراري من السفر وكان يوم الاثنين موعد اللقاء معه دائماً في المكتبة ، وأذكر حينما كنت آخذ أهلي معي له يفتح معها النقاش حولي ومعاملتي لها ويطمئن منها على ذلك وهي تجيبه بلا حرج فقد كان الوالد للجميع إخوة وأخوات أبناء وبنات، رحمك الله يا شيخي ومعلمي وأستاذي .
نم قرير العين
نعم نم قرير العين يا شيخنا، فقد أثمرت تربيتك فينا وها هو غرسكم يملأ الدنيا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، الكل يقر لكم بالفضل ويثني عليكم بالخير، نم قرير العين يا شيخنا فأبناؤك وتلاميذك وأحبابك يقودون العمل الإسلامي بثبات وتفانٍ، نم قرير العين يا شيخنا فقد بلغت دعوة الله ووضعت لها أسساً ثابتة، وورثت لنا الدعوة سليمة من كل شائبة وطاهرة من كل مطمع، نم قرير العين يا شيخنا فإنا على الدرب سائرون ولفكرتنا ولمنهجنا حافظون، ولدعوتنا عاملون مجاهدون ، نم قرير العين يا شيخنا في صحبة الأبرار ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، نم قرير العين يا شيخنا وبلغ سلامنا إلى الحبيب المصطفى والصحب الكرام والتابعين ومرشدينا السابقين وقادة دعوتنا الراحلين، وأخبرهم أنا على دربهم ماضون ماضون ماضون، حتى يتوفانا الله ونحن كذلك .. والله أكبرو لله الحمد
هناك تعليق واحد:
السلام عليكم
رحم الله الشيخ واسال الله ان يجمعك ويجمعنا بة فى جنات النعيم وان يصبر اهلنا فى الاسكندرية على هذا المصاب الجلل
والله يا اخى سبحان الله هذا الجيل جيل فريد اسال الله ان يتكرر ويتكرر فان بة عودة الامة
إرسال تعليق