في حياة كل منا مواقف رائعة لا تنسى، وأحداث بديعة لا تمحى من الذاكرة، وقليلة هي تلك المواقف التي تترك أثرا إيجابيا في حياة الإنسان، ونادرة تلك المشاهد التي تحفر صورتها في ذاكرة المرء، ولقد قدر الله بمشيئته أن تتاح لي فرصة أحسبها من الفرص النادرة في حياة الإنسان، فقد أخذتني يد القدرة الإلهية إلى رحلة تدريبية وسياحية، اعتبرها الأولى من نوعها في حياتي، فهي محطة من محطات الحياة الهامة، والتي لها ما بعدها، فقد ساقتني أقداري الجميلة إلى رحلة عبر الشريط الصحراوي الممتد ما بين اليمن والسعودية والذي نعرفه بصحراء الربع الخالي، هي صحراء تحيط بك من كل جانب، اللون الأصفر يفرض نفسه من حولك، وعلى امتداد الأفق لا ترى سوى حواف الجبال الشاهقة، و لا تكاد تجد حياة ولا بارقة أمل في وجود روح، لا تشعر إلا بالامتداد اللا متناهي للرمال من كل اتجاه.
ويمتد بنا المسير وتقطع بنا السيارة الفيافي، وفجأة نجد شيئا يتحرك من بعيد فنقترب منه، فإذا به جمل يتبختر وسط الصحراء كالملك في عرينه، لا أحد ينازعه ملكه أو يشاركه صحراءه، وتمضي بنا سيارتنا تقطع المسافات في قلب الصحراء، وإذا بصاحبي ورفيق رحلتي يقول لي هنا وصلت دعوة الإخوان المسلمين، هنا وصلت تعاليم الإمام البنا، فالتفت يمينا ويسارا فلم أجد سوى اللون الأصفر الممتد إلى ما لا نهاية، وانتابتني حالة من التعجب الشديد وأنا أتساءل بصوت عال مع صاحبي، هنا وصلت دعوة الإخوان المسلمين ؟ هنا وصل فكر الإمام الشهيد حسن البنا؟ هنا يؤمن بفكرته بشر ؟ هنا يدعو بدعوته بشر ؟ هنا ينشر رسالته بشر ؟ هنا يعمل بفكرته بشر ؟ يا الله في هذا الخلاء في هذا الربع الخالي في هذه الصحراء القاحلة المقفرة في وسط هذه الرمال والكثبان الرملية والصخور الصماء ؟ هنا وسط هذه العواصف الرملية والرياح العاتية ؟
ونظر صاحبي إلي مقدراُ دهشتي وتعجبي، وأجابني قائلا: انظر في الأفق، فلم أجد سوى الصحراء، فقال لي هناك بعيدا، فلم أجد إلا جبلا سامقا قد لفحته نار الصحراء فازداد سوادا فوق سواده، قال لي صاحبي انظر أسفله، فوجدت أثرا لعشش من القش وجذوع النخل وأفرع الأشجار، فقال لي هنا يقطن البدو الرحل وقد وصلت إليهم قوافل الدعوة ووصلت إليهم تعاليم الإمام البنا ووصلت إليهم دعوة الإخوان وانضم الصالحون منهم إلى دعوة الصلاح، وأصبح لهذه الدعوة رواحل في قلب الصحراء يحملون دعوة النور في وسط ظلام الصحراء وسكونه القاتل، فأخذتني الحيرة ثانية، متسائلا وكيف وصلت إليهم دعوة الإخوان وهم في هذه الصحراء وتلك الأماكن التي لا يراها المار، قال صاحبي: كانت البداية أن دعي بعض الإخوان إلى عرس في تلك المناطق النائية في صحراء الربع الخالي، فكانت المشاركة وكانت كلمات التهنئة وكانت نقطة الانطلاق الأولى والتعرف على دعوة الإسلام الشامل الصحيح، ثم كانت قوافل الدعوة التي خرجنا بها نقصد هؤلاء القوم في أكواخهم وعششهم في قلب الصحراء، وقال لي صاحبي: لا يوجد شجر ولا حجر إلا ووصلت إليه دعوة الإخوان، ما دام هناك بشر، فكانت بداية البزوغ.
وشاءت إرادة الله أن يبزغ نور هذه الدعوة الربانية المحمدية من وسط ركام التلال والآكام والجبال والرمال في قلب الصحراء المقفرة صحراء الربع الخالي، وما أدراك ما صحراء الربع الخالي، الخالي من كل شئ من الحركة والحياة، الخالي من النور والضياء، الخالي من الماء سر الحياة، الخالي من كل شئ عدا الرمال والصخور، فلم أتمالك نفسي فاهتز قلبي وارتعشت جوارحي ولم تستطع عيني أن تحبس ما بداخلها، وأيقنت أن هذه الدعوة محفوظة بحفظ الله لها، فجلست أردد بقلبي وجوارحي قبل لساني الله أكبر ولله الحمد، وتذكرت على الفور بشرى الحبيب صلى الله عليه وسلم " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه" وأدركت كريم فضل المولى سبحانه وتعالى على هذه الأمة وعلى هذه الدعوة المباركة، هاهي الطريق التي ذكرها الحبيب صلى الله عليه وسلم "من صنعاء إلى حضرموت" تدين بالإسلام وتؤمن به، وتعتنق دعوة الله الخالدة في العصر الحديث ممثلة في مبادئ الإخوان وتعاليم الإمام البنا، فازدادت ثقتي في دعوتي وفي نصر الله الآتي لا محالة، وأيقنت أن كل محاولات أعداء الدعوة الساعية لتضييق الخناق حولها أو تجفيف منابعها ستبوء بالفشل، فالله ناصر دينه
رحلة صحراء الربع الخالي أعادتني إلى كلمات الإمام البنا المدوية " وددت أن أبلغ الدعوة إلى الجنين في بطن أمه " وقوله " كنا نسبق الدعوة فأصبحت الدعوة تسبقنا " ووصف الإمام هذه الدعوة التي " امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا وسعت آفاق الأمم وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة " وها هي صحراء الربع الخالي تنضم إلى ربوع الأرض قاطبة التي تهتف بشعارات الإخوان وتدعو بشمولية الإسلام وتنادي بمبادئ الإخوان، وقد كان ما تطلع إليه الإمام الشهيد، بأن وصلت دعوته مشارق الأرض ومغاربها حتى امتدت في أكثر من 90 دولة حول العالم، وأصبح يهتف بها القاصي والداني والعربي والعجمي.
رحلة صحراء الربع الخالي ذكرتني بتاريخ دعوتنا، وبداية الانتشار الدعوى، وجعلتني أردد من كل قلبي رحم الله إمامنا الشهيد ، ورحم الله مرشدينا الراحلين وقادة الدعوة المخلصين ، ورحم الله الفضيل الورتلاني واضع أول لبنة لدعوة الإخوان في اليمن، ورحم الله رجال الدعوة الكرام باليمن السعيد من الشيخ البيحاني والشهيد الزبيري ومرورا بالشهيد المخلافي وكل الكرام الذين أفضوا إلى ما قدموا، وجزاهم الله عن دعوة الإسلام خير الجزاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق