الخميس، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٧

مفهوم الحرية والضغط الأخلاقي

مقال رائع للدكتور محمد بديع أحببت أن ينور مدونتي :
هل الحرية مطلقة؟! وهل تعني أن يفعل كل إنسان ما يشاء وأن يقول ما يريد وبلا حدود؟!

أعتقد أن الجميع سيقولون بالطبع "لا"؛ فللحرية حدود، ولكن الجميع أيضًا سيختلفون على مَن يضع هذه الحدود ومن له هذا الحق!!.

هل تضع الدولة الحدود للحرية؟ أم هل يضع أفرادُ الناس الحدودَ لحرياتهم بأهوائهم أو إن شئت فقل هل يضع الأفراد الحدود لحريات الآخرين عند نهايات حرياتهم هم؟! وما هي ضوابط الحدود التي تُترَك للدولة لتضعها لحريات مواطنيها، وقد رأينا كيف تضيِّع طبيعة قيادة أي دولة قراراتها وتشريعاتها فيما يخصُّ حريات المواطنين والتوازن بين أمن الوطن وأمن المواطن؛ فمثلاً إذا كانت القيادة عسكريةَ الطبع والتربية والنشأة، فإنها تضع حدودًا صارمةً ديكتاتوريةً تصبغ كل شئون حياة الناس وما عليهم إلا السمع والطاعة وإلا!!!..

وعندما تكون القيادة بوليسيةً تكون ضوابط الحريات بوليسيةً أمنيةً، وعندما تكون القيادة رأسماليةً تضع الضوابط التي تحقِّق أقصى مكاسب وأرباحًا ماليةً.

وعندما تكون شيوعيةً ذات مبدأ عقائدي، بمنع حريات الأديان التي تهدد مبدأ الشيوعية "لا إله والحياة مادة"، وتمنع كل حرية لنشر أي دين، وعندما تكون القيادة علمانيةً وحكوماتها المتعاقبة كذلك تكون أشبه بحرية الفوضى؛ كي تكون هناك فرجةٌ في أي اتجاه ومن أي فكر يفصل بين الدين والدولة، ويقلل من ارتباط الناس بعقيدتهم بحثًا عن أي حياة وبأي شكل وتصبح الضوابط أقرب إلى "لا ضوابط".

وفي النهاية.. من يضع حدود الحرية إذا اتفقنا أنه لا بد أن تكون للحرية حدود؟! يظن كثيرون أننا عندما ننادي بسيادة القيم والمبادئ الإسلامية أننا نجبر الناس على الدخول في الإسلام، وهذا خلط بين الدين والتدين.

الدين منهاج رب العالمين الذي وضعه للبشرية جمعاء؛ كي يكون رحمةً لهم.. نعم تتم الرحمة إذا دخل الإنسان هذا الدين بنص قول الله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3) ولكن هناك زاوية أخرى، كيف يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رحمةً للعالمين، أي لكل العوالم البشرية والحيوانية والنباتية والكونية وسائر المخلوقات ممن نعلم وممن لا نعلم.. كيف؟!

سأستدلُّ فقط بقول كفار مكة عن طبيعة هذا الدين، وهم لم يؤمنوا به، وحتى لم يعترفوا بنبوَّة الرسول- صلى الله عليه وسلم- قالوا: "والله إن لم يكن هذا دينًا فهو خلقٌ في الناس كريم".

وبنظرة سريعة إلى الوصايا العشرة، نجدها أصولاً للقيم والأخلاق في رسالة سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، أي أن القيم والمبادئ التي يحملها هذا الدين لا يختلف عليها اثنان، سواءٌ من دَخَل فيه وصار من أتباعه، أو حتى من لم يعترف به وناصَب أهلَه العَدَاء بغيًا أو حسدًا أو صراعًا، كيف اختار لنفسه سبب العداوة، بدليل أنهم- رغم عداوتهم للرسول الكريم وتآمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم- فهم منتفعون بقيم هذا الدين ومبادئه، التي تحكم أصحابه، وتضبط حركتهم، وتمنعهم من الغدر والخيانة حتى لمن خانهم ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)﴾ (الأنفال).

لذا وجدنا كفار مكة يضعون أماناتهم عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم الذين يتآمرون على قتله مكرًا وحقدًا وحسدًا وبغيًا، بل كان العار الذي لحق بهم عندما وجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف ابن عمه علي رضي الله عنه ليردَّ الأمانات لأصحابها الذين غدروا به وتآمروا إما على قتله أو سجنه أو طرده ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾ (الأنفال).

فلحق بهم العار عندما وجدوا عليًّا ووجدوا أماناتهم، ونجا محمد صلى الله عليه وسلم بحفظ الله، فهذه طبيعة الدين وأخلاق أهله، وهذه طبيعة الكفر وخسَّة أهله، وكل إناء بما فيه ينضح، وهذا من جهة أخرى حفظُ الله لدينه، وكيده ومكره، وهو خير الماكرين.

نعود إلى قضيتنا الأصلية من يضع حدود الحرية؟! وقد عانينا كثيرًا من نُظُم قنَّنت الظلم، وجعلت حدود الحرية هي ما تحقّق لها البقاء في السلطة، ومنعت كل ما يُخشَى منه أن يزول سلطانها به، حتى ولو كانت قواعد الديمقراطية والحرية في إبداء الرأي والانتخاب والاختيار.

فتغوَّلت السلطة التنفيذية الحامية للسلطان والملك على السلطة التشريعية؛ حتى لا تشرع أي قانون يخالف رغبتها الجامحة في الاستبداد والاستئثار، وتحالفت مع رأس المال ورجال الأعمال لتبادل المصالح وتكامل المنافع، فتجمعهم السلطة، وتعطيهم مظلة السلب والنهب بحرية وبالقانون، مستفيدين من التغلغل في التشريع والسيطرة على التنفيذ.

وحتى على المستوى المطلق هل يمكن أن يضع ضوابطَ الحرية بشرٌ أو مجموعةٌ من البشر، لهم ميولٌ، ولهم هوى، ولهم ارتباطات، ولهم مصالح؟! هل يمكن أن يضعوا ضوابط للحرية تحدُّ من سلطاتهم ورغباتهم وأهوائهم، وتعطِّل مصالحهم، أو تقلل منها، ويعلم الجميع أن النفس لا تشبع مهما أوتيت "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب، لتمنَّى أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب".

وبالتالي، هل يرفض عاقل أن يضع ضوابط الحرية خالق البشر المنزَّه عن الشبيه والنظير، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والذي لو كان معه غيره لفسدت السماوات والأرض، ويقبلها من البشر الناقصين أصحاب الهوى؟!

وسيقول قائل: نحن لا نرفض مبادئ الدين، ولكن نرفض تفسيركم أنتم للدين ولضوابطه، والتي ستضعونها، فتصبحون بذلك مثل غيركم، تضعون حدودًا للحرية، تخدم رؤيتكم أنتم وليس حقيقة الدين؟!

ونقول- وبالله التوفيق-: إن القيم والمبادئ وأصول الأخلاق الحاكمة على الاجتماعيات والسياسات والاقتصاديات وسائر المعاملات، أي أصول وقواعد التشريع الإسلامي، لا خلافَ عليها، ليس فقط بين أصحاب الديانات السماوية، بل بين كل الشرفاء والوطنيين والصادقين في رغبتهم أن يعيشوا مواطنين صالحين مصلحين لا فاسدين ولا مفسدين.

وإليكم نموذجًا من التعايش والتضامن، يجسِّده حلف الفضول في الجاهلية، ويؤكده الإسلام في دولته بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لو دُعِيْتُ به في الإسلام لأجبت" أي أن رفع الظلم والوقوف في وجه الفساد يرغب فيه كل صالح مصلح ويدعو إليه الإسلام لتتكافل جهود أبنائه مع كل جهود المخلصين، وفارق واحد رئيسي أن أتباع هذا الدين يقفون هذه المواقف ابتغاءَ مرضاة الله، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا ينتظرون ممن يقفون معه جزاءً ولا شكورًا، ولهذا يدوم هذا الموقف ولا ينقطع، ويتصل مع غيره من أصحاب مثل هذه المواقف ولا ينفصل، أما غيرهم فعلى قدر طاقة كل واحد منهم وحدود صبره وحدود تحمُّله يكون الموقف ويتحقق الثبات.

وبالله عليكم، مَن يَكره أن يقف أحدٌ في وجه الظلم؟ حتى من لا يستطيع أن يفعل ذلك يحبه!! وكذلك من يكره أن يدافع أحد عن حرية الآخرين ولو لم يقدر هو أن يفعل ذلك؟!

ولذلك سُمِّي المعروف معروفًا بين الناس وسُمِّي المنكر منكرًا بين الناس؛ فهي منحة من الله عز وجل "وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".

أما الحرية أو ضوابطها فقد يقول قائل- عندما نناقش الضوابط الأخلاقية الشخصية- إن هذا قيد على الحرية الشخصية، وهذه الحجة من تلبيس إبليس على النفس البشرية، أليس هذا القيد عليك يحميك أيضًا بوضع نفس القيد على الآخرين؛ لحماية عِرضك ومالك وشرفك وكرامتك؟! أما إذا قبلت التفريط في حقك فللمجتمع عليك حقوق لا بد من مراعاتها.

وقد قرأت قديمًا في مجلة (الإخوان المسلمين) أن الضغط الأخلاقي يشبه الضغط الجوي، هو ضغط فعلاً (76 سنتيمتر زئبق) ولكن الرئة وتركيب الهواء الجوي المحيط بنا متوائم تمامًا مع بعضها البعض، بل وبغيره يختل النظام ويضيق الصدر؛ لذا إذا رفعنا الضغط الجوي عن الجسم انفجر وإذا رفعنا الضغط الأخلاقي عن المجتمع فجر.

وعلى هذا يجب وضعُ حرية المرأة بل وأيضًا حرية الرجل وحرية المجتمع وحرية الحاكم وحرية الجيش وحرية الشرطة وحرية الصحافة وحرية الفن.. في داخل هذه الدائرة الكبيرة، التي تحيط بالبشرية جميعًا.. نظام عام عالمي للقيم والأخلاق، وضَعَه مَن وضَع نظام العالم كله، من ليل ونهار، وأرض وسماء، وماء وهواء، ومخلوقات متوازنة في حقوقها وواجباتها سبحانه وتعالى ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾ (سبأ: من الآية 3)، سبحانه وتعالى ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك).

وختامًا.. يجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كل القضية في كلمات من جوامع الكلم "اعمل ما شئت فإنك مجزي به.. اعمل ما شئت كما تدين تدان"، فلك كل الحرية المسئولة التي يقابل فيها كل حق واجب، وسوف تُسأَل عن عمرك وعن شبابك وعن عملك وعن مالك فأعد لكل سؤال جوابًا.

وقد قال الأستاذ البنا- رحمه الله- عن ضرورة توحيد جهود المسلمين وجمع كلمتهم على أصول القواعد ونبذ الخلافات: "يكفينا أن نجتمع على ما يصير المسلم به مسلمًا"، وهذا ضابطٌ أصوليٌّ في ترتيب الأولويات (انظر فقه الأولويات) للدكتور يوسف القرضاوي، وقاعدة أخرى تجمع المسلمين مع غير المسلمين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، هيا لنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه
منقول من اخوان اون لاين :

ليست هناك تعليقات: