الخميس، ٢٢ نوفمبر ٢٠٠٧

التوازن بين التكليف الدعوي والمردود التربوي

التوازن
بين التكليف الدعوي والمردود التربوي


اشكالية
ظاهرة تربوية بدأت تغزو الكثير من النفوس ، وكثيرا ما يشكو منها أصحاب الدعوات والعاملون للإسلام والمربون ، ولا يجدون إجابة وافية لما ينتاب نفوس أبناء الصحوة من حيرة وقلق ، ألا وهي كثرة الانخراط والاستغراق في الأعمال الدعوية والمجتمعية والسياسية والخدمية والإدارية والتي تستنزف أوقاتهم وجهودهم على حساب الأعمال التربوية الإيمانية ، مما يشعرهم بفقدان الكثير من المردود التربوي والأثر الإيماني في قلوبهم ، وينتج عن ذلك فتور وكسل وقعود عن أداء بعض الأعمال الإدارية والدعوية بحجة عدم جدواها إيمانيا وروحيا ، ولهذه الإشكالية الدعوية جوانب شتى ، يحتاج المربي أن يقف معها وقفة متأنية ، من خلال النظر في آيات القرآن الكريم وأحاديث الحبيب المصطفى والتطبيق العملي لهما عبر التاريخ ثم صفحات الواقع العملي للحركة الإسلامية

كل لا يتجزأ
يدرك أنصار الدعوة أن مشروع الدعوة التربوي مرتبط بمهمتهم فى الحياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ...} مما يعني إيمانهم بأن مشروع الجماعة الاصلاحى الإسلامي مرتبط بمهمة المسلمين فى الحياة ، بدءاً من الاستخلاف في الأرض ، ومروراً بالقيام بالأمر بالمعروف وبالدعوة إلى الله والمساهمة في إقامة الشريعة ، فالمشروع التربوي كل لا يتجزأ سواء كان الفعل دعويا أم حركيا أم سياسيا أم اجتماعيا أم تربويا ، وأن كل هذه الأعمال لها مردود تربوي وإيماني .

غرس وتفجير
لقد قامت التربية الربانية للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام في بداية الدعوة الإسلامية على محورين اثنين ، ومن خلال أمرين قرآنيين ، كانا بمثابة المرتكزات الأساسية لأي عمل تربوي في مرحلة التأسيس ، تمثل المحور والمرتكز الأول فيما سماه علماؤنا بمرحلة غرس القيم الإيمانية والسلوكيات التربوية ، منطلقا من قوله تعالى " ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا " وهو معلم على البناء التربوي الداخلي للصف ، فامتثل النبي وصحبه للأمر ، فكانت تربية قيام الليل كل ليلة 4 ساعات ولمدة سنة كاملة " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك " فأثمرت جيلا قرآنيا فريدا قادرا على تحمل مشاق الطريق بعد ذلك " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " وأصبح الجيل قادرا على تنفيذ الأمر الثاني والمتمثل في تفجير الطاقات ، فجاء الأمر " يا أيها المدثر قم فأنذر " فجاءت الحركة والانطلاقة والتكاليف الدعوية بعدما أخذت التربية الربانية حقها من النفوس ، فجمع الجيل الأول بين الخيرين معا ، وكانت الانطلاقة المزدوجة ، تربية داخلية للصف وحركة خارجية في المجتمع لا يطغى جانب على آخر ، هكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى وهكذا يجب أن تسير الحركة الإسلامية العالمية اليوم ، ما بين اصلاح النفس ( بحسن تربية افراد الصف ) ودعوة الغير ( بالحركة الهادفة الفعالة مع المجتمع ) وهي كما قالها أستاذنا مصطفى مشهور رحمه الله " أصلح نفسك وادع غيرك" .

تفاعل بناء
علمتنا السنة النبوية والتجارب التي مرت بها الدعوة ، بأن البعد التربوي والارتقاء الايماني بأفراد الصف ، لا يتحقق بصورة عملية إلا من خلال تفاعل مع المجتمع المحيط والخروج من الدائرة المحدودة التي يحصر المسلم نفسه فيها وقد غرس هذا المعني فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وأيضا " خير الناس أنفعهم للناس " وأكد على أن العزلة لا تثمن ولا تغني من جوع ولا تؤتي بثمار تربوية ، بل بين لنا أن المردود التربوي المرجو من الصف لا يكون إلا من خلال المخالطة والاحتكاك الميداني بالمجتمع “ المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم “وقوله " لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف "

روح سارية
قالها الإمام المؤسس رحمه الله " ولكنكم روح تسري في قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن " مؤكدا الحقيقة التربوية التي تقول بأن المناهج تبقى نصوصاً وكلمات جافة ، حتى يحولها المربون إلى روح تسري في نفوس إخوانهم ثم يصبحون هم روحاً تسري في جسد هذه الأمة فتحييه بالقرآن ، وهذا التحول يتم بصورة دقيقة حينما يقوم المربون بدورهم التربوي على أكمل وجه ومن خلال فعلين متلازمين أحدهما سابق للتكليف الدعوي والآخر لاحق له :
1. أن يكون كل عمل - دعوي كان أو سياسي أو حركي أو تنظيمي - مسبوقا من قبل المربين والمسئولين بالتوجيه الإيماني والتذكير بربانية أعمالنا وبأن هذا العمل هو عبادة ، شأنه شأن أداء الصلاة أو الصيام ، فالخروج الدعوي أو الوقفة السياسية أو المسيرة السلمية ، أو تعليق المطبوعات أو قضاء حوائج الناس ، كل ذلك عبادة كالصلاة والاعتكاف وقيام الليل فعند ذهاب كل منا إلى لقاء أو مؤتمر أو حركة لابد أن يهيئ نفسه قبيل الذهاب بأن هذا العمل عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وقد أوصانا بذلك الأستاذ محمد العدوى رحمه الله بقوله : " اجتهد فى العبادة قبل اللقاء واحذر من ضياع أجر العمل" .
2. أن يتبع كل تكليف دعوي أثرٌ تربوي ، يعالج العيوب التي ظهرت ويثني على الإيجابيات التي برزت وينميها ، وهذا يتطلب من مسئولي كل الأعمال والتكاليف الدعوية أن يستشعروا أن التربية مسئولية الجميع ، وأن كل واحد يساهم من خلال عمله الإداري والتنظيمي في العملية التربوية .

غدوة و روحة
" لماذا نجعل الفصل قائما في الأعمال ما بين الدعوية والإدارية والحركية والتربوية ؟ هل النية تختلف من عمل لآخر ؟" هكذا قالها لنا أستاذنا جمعه أمين حفظه الله وهو يرد على حيرة المربين ، وأكد لنا من جديد " بان الدعاة والمربين مطالبون بأن يتوجهوا إلى الله بالنية في كل أعمالهم التي يمارسونها سواء كان هذا العمل إداريا أم تربويا { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وأنه لا فصل عندنا بين الأعمال ، فكل ما نقوم به هو عمل تعبدي ، نبتغي به وجه الله سواء كان إداريا أو سياسيا أو تربويا ، وربما كان عمل أفضل من عمل" وهذا ما بينه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم :" من سعى في حاجة أخيه ساعة من نهار قضاها الله أو لم يقضها كان كمن اعتكف في مسجدي هذا شهراً " وكذلك قوله : " لغدوة أحدكم أو روحة في سبيل الله خير من عبادة سبعين سنة " فالسعي في حاجة المسلم والغدوة والروحة عمل حركي دعوي مجتمي وربما سياسي وإداري ، ولكنه سبق العمل التعبدي كالاعتكاف وغيره ، فالغدوة والروحة في سبيل الله وكلها حركة لله في شئون الدعوة وعباد الله ، لها مردود يماثل تأثير العبادة بكل ما تتركه في النفس من آثار تربوية وشحنة إيمانية وروحانية صافية ، ودورنا التربوي يتمثل في ربط كافة الأعمال بالنية الصالحة وابتغاء وجه الله ، ومن هنا فلا إشكالية ولا حيرة ولا قلق إذا زاد عمل ما على حساب عمل آخر ،.

عيوب تعالج
هل حقا يجب الابتعاد عن العمل السياسي لأنه أفضل في العمل التربوي ؟ وأن هجر العمل السياسي أسلم للصف بسبب أن مردوده سلبي على الأفراد المنشغلين به والواقع يحكي ذلك ؟ تساؤل ينتابنا أحيانا ، فتأتينا الاجابة الوافية الشافية من أستاذنا د محمد بديع :" ليس علاج العيوب التي تظهر على الأخوة الذين يشتغلون بالعمل السياسي في أن يبتعدوا عنه ، بل إن ظهور هذه العيوب هو كشف مبكر لها قبل أن يستفحل الداء وتتحمل هذه الشخصيات والرموز مسئولية في موقع مؤثر تحسب أخطاؤهم على الدعوة والإسلام " ثم أكد لنا ثانية بأن " عيوب النفس والأخلاق لا يمكن أن تظهر إلا بالاحتكاك والتعامل مع الغير ، لذلك كانت الأعمال الدعوية التي تتصل بالمجتمع بكل طوائفه وفي كل مجالات العمل فيه هي اختبارات عملية لسلوك الفرد يقاس من خلالها الأثر التربوي ، كما أن العيوب التربوية والسلوكية مثل (الفجور في الخصومة – الكذب في الحديث – الخلف في الوعد – خيانة الأمانة – الشح المطاع – الدنيا المؤثرة .. الخ ) لا يمكن أن تكتشف إلا من خلال المعاملات مع الآخرين ، كما أن الصفات الإيجابية مثل ( كظم الغيظ – العفو عند المقدرة – المروءة .. الخ ) لا تنمى إلا من خلال العمل الدعوي المجتمعي " .

مسك الختام
هي مفاهيم تربوية علمتنا إياها الدعوة عبر مسيرتها الخالدة :
· دعوتنا دعوة التكامل التربوي ، فالمفهوم التربوي الصحيح لا يفصل التربية عن الدعوة والعلم ، أو الجهاد والعمل للدين ؛ أو السياسة والإعلام ، فهي كلها خطوط واحدة ومتوازية ، والتربية فيها مسئولية الجميع .
· التربية لابد ان تكون شاملة لجوانب النفس البشرية " قلب وعقل وجسد " ، وهي تربية تسعى لتكسب النفس ( ايمان – خلق – حركة و دعوة ) بحيث لا يتم التركيز على جانب دون الآخر.
· التربية هي الأساس التوجيهي لكل عمل أو فكر أو خلق ؛ وهي أساس سلوك الفرد في مجتمعنا الدعوي ، مما ينعكس إيجابياً على طبيعة العمل الإسلامي ، ويعطيه صبغة يميزه الناس بها .
· التكامل التربوي يشمل أيضا تكامل بين الوسائل والأساليب التربوية ، ما بين الأسلوب المباشر وغير المباشر ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، والداخلي والخارجي ، والعام والخاص ... الخ ، مع الاهتمام في المقام الأول بالمحضن التربوي الأساسي (الأسرة ) والتي هي وحدة العمل المعطاء .
· التربية الواسعة الآفاق في العمل الدعوي - الاجتماعي والثقافي والعلمي - المشتمل على أمور الدين والدنيا والمرتبط بالمجتمع والدولة هي الأساس التربوي في تماسك بنيان الدعوة المرصوص ، والمعين على وحدة صفها وكلمتها .