الخميس، ٢٢ نوفمبر ٢٠٠٧

التوازن بين التكليف الدعوي والمردود التربوي

التوازن
بين التكليف الدعوي والمردود التربوي


اشكالية
ظاهرة تربوية بدأت تغزو الكثير من النفوس ، وكثيرا ما يشكو منها أصحاب الدعوات والعاملون للإسلام والمربون ، ولا يجدون إجابة وافية لما ينتاب نفوس أبناء الصحوة من حيرة وقلق ، ألا وهي كثرة الانخراط والاستغراق في الأعمال الدعوية والمجتمعية والسياسية والخدمية والإدارية والتي تستنزف أوقاتهم وجهودهم على حساب الأعمال التربوية الإيمانية ، مما يشعرهم بفقدان الكثير من المردود التربوي والأثر الإيماني في قلوبهم ، وينتج عن ذلك فتور وكسل وقعود عن أداء بعض الأعمال الإدارية والدعوية بحجة عدم جدواها إيمانيا وروحيا ، ولهذه الإشكالية الدعوية جوانب شتى ، يحتاج المربي أن يقف معها وقفة متأنية ، من خلال النظر في آيات القرآن الكريم وأحاديث الحبيب المصطفى والتطبيق العملي لهما عبر التاريخ ثم صفحات الواقع العملي للحركة الإسلامية

كل لا يتجزأ
يدرك أنصار الدعوة أن مشروع الدعوة التربوي مرتبط بمهمتهم فى الحياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ...} مما يعني إيمانهم بأن مشروع الجماعة الاصلاحى الإسلامي مرتبط بمهمة المسلمين فى الحياة ، بدءاً من الاستخلاف في الأرض ، ومروراً بالقيام بالأمر بالمعروف وبالدعوة إلى الله والمساهمة في إقامة الشريعة ، فالمشروع التربوي كل لا يتجزأ سواء كان الفعل دعويا أم حركيا أم سياسيا أم اجتماعيا أم تربويا ، وأن كل هذه الأعمال لها مردود تربوي وإيماني .

غرس وتفجير
لقد قامت التربية الربانية للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام في بداية الدعوة الإسلامية على محورين اثنين ، ومن خلال أمرين قرآنيين ، كانا بمثابة المرتكزات الأساسية لأي عمل تربوي في مرحلة التأسيس ، تمثل المحور والمرتكز الأول فيما سماه علماؤنا بمرحلة غرس القيم الإيمانية والسلوكيات التربوية ، منطلقا من قوله تعالى " ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا " وهو معلم على البناء التربوي الداخلي للصف ، فامتثل النبي وصحبه للأمر ، فكانت تربية قيام الليل كل ليلة 4 ساعات ولمدة سنة كاملة " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك " فأثمرت جيلا قرآنيا فريدا قادرا على تحمل مشاق الطريق بعد ذلك " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " وأصبح الجيل قادرا على تنفيذ الأمر الثاني والمتمثل في تفجير الطاقات ، فجاء الأمر " يا أيها المدثر قم فأنذر " فجاءت الحركة والانطلاقة والتكاليف الدعوية بعدما أخذت التربية الربانية حقها من النفوس ، فجمع الجيل الأول بين الخيرين معا ، وكانت الانطلاقة المزدوجة ، تربية داخلية للصف وحركة خارجية في المجتمع لا يطغى جانب على آخر ، هكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى وهكذا يجب أن تسير الحركة الإسلامية العالمية اليوم ، ما بين اصلاح النفس ( بحسن تربية افراد الصف ) ودعوة الغير ( بالحركة الهادفة الفعالة مع المجتمع ) وهي كما قالها أستاذنا مصطفى مشهور رحمه الله " أصلح نفسك وادع غيرك" .

تفاعل بناء
علمتنا السنة النبوية والتجارب التي مرت بها الدعوة ، بأن البعد التربوي والارتقاء الايماني بأفراد الصف ، لا يتحقق بصورة عملية إلا من خلال تفاعل مع المجتمع المحيط والخروج من الدائرة المحدودة التي يحصر المسلم نفسه فيها وقد غرس هذا المعني فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وأيضا " خير الناس أنفعهم للناس " وأكد على أن العزلة لا تثمن ولا تغني من جوع ولا تؤتي بثمار تربوية ، بل بين لنا أن المردود التربوي المرجو من الصف لا يكون إلا من خلال المخالطة والاحتكاك الميداني بالمجتمع “ المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم “وقوله " لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف "

روح سارية
قالها الإمام المؤسس رحمه الله " ولكنكم روح تسري في قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن " مؤكدا الحقيقة التربوية التي تقول بأن المناهج تبقى نصوصاً وكلمات جافة ، حتى يحولها المربون إلى روح تسري في نفوس إخوانهم ثم يصبحون هم روحاً تسري في جسد هذه الأمة فتحييه بالقرآن ، وهذا التحول يتم بصورة دقيقة حينما يقوم المربون بدورهم التربوي على أكمل وجه ومن خلال فعلين متلازمين أحدهما سابق للتكليف الدعوي والآخر لاحق له :
1. أن يكون كل عمل - دعوي كان أو سياسي أو حركي أو تنظيمي - مسبوقا من قبل المربين والمسئولين بالتوجيه الإيماني والتذكير بربانية أعمالنا وبأن هذا العمل هو عبادة ، شأنه شأن أداء الصلاة أو الصيام ، فالخروج الدعوي أو الوقفة السياسية أو المسيرة السلمية ، أو تعليق المطبوعات أو قضاء حوائج الناس ، كل ذلك عبادة كالصلاة والاعتكاف وقيام الليل فعند ذهاب كل منا إلى لقاء أو مؤتمر أو حركة لابد أن يهيئ نفسه قبيل الذهاب بأن هذا العمل عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وقد أوصانا بذلك الأستاذ محمد العدوى رحمه الله بقوله : " اجتهد فى العبادة قبل اللقاء واحذر من ضياع أجر العمل" .
2. أن يتبع كل تكليف دعوي أثرٌ تربوي ، يعالج العيوب التي ظهرت ويثني على الإيجابيات التي برزت وينميها ، وهذا يتطلب من مسئولي كل الأعمال والتكاليف الدعوية أن يستشعروا أن التربية مسئولية الجميع ، وأن كل واحد يساهم من خلال عمله الإداري والتنظيمي في العملية التربوية .

غدوة و روحة
" لماذا نجعل الفصل قائما في الأعمال ما بين الدعوية والإدارية والحركية والتربوية ؟ هل النية تختلف من عمل لآخر ؟" هكذا قالها لنا أستاذنا جمعه أمين حفظه الله وهو يرد على حيرة المربين ، وأكد لنا من جديد " بان الدعاة والمربين مطالبون بأن يتوجهوا إلى الله بالنية في كل أعمالهم التي يمارسونها سواء كان هذا العمل إداريا أم تربويا { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وأنه لا فصل عندنا بين الأعمال ، فكل ما نقوم به هو عمل تعبدي ، نبتغي به وجه الله سواء كان إداريا أو سياسيا أو تربويا ، وربما كان عمل أفضل من عمل" وهذا ما بينه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم :" من سعى في حاجة أخيه ساعة من نهار قضاها الله أو لم يقضها كان كمن اعتكف في مسجدي هذا شهراً " وكذلك قوله : " لغدوة أحدكم أو روحة في سبيل الله خير من عبادة سبعين سنة " فالسعي في حاجة المسلم والغدوة والروحة عمل حركي دعوي مجتمي وربما سياسي وإداري ، ولكنه سبق العمل التعبدي كالاعتكاف وغيره ، فالغدوة والروحة في سبيل الله وكلها حركة لله في شئون الدعوة وعباد الله ، لها مردود يماثل تأثير العبادة بكل ما تتركه في النفس من آثار تربوية وشحنة إيمانية وروحانية صافية ، ودورنا التربوي يتمثل في ربط كافة الأعمال بالنية الصالحة وابتغاء وجه الله ، ومن هنا فلا إشكالية ولا حيرة ولا قلق إذا زاد عمل ما على حساب عمل آخر ،.

عيوب تعالج
هل حقا يجب الابتعاد عن العمل السياسي لأنه أفضل في العمل التربوي ؟ وأن هجر العمل السياسي أسلم للصف بسبب أن مردوده سلبي على الأفراد المنشغلين به والواقع يحكي ذلك ؟ تساؤل ينتابنا أحيانا ، فتأتينا الاجابة الوافية الشافية من أستاذنا د محمد بديع :" ليس علاج العيوب التي تظهر على الأخوة الذين يشتغلون بالعمل السياسي في أن يبتعدوا عنه ، بل إن ظهور هذه العيوب هو كشف مبكر لها قبل أن يستفحل الداء وتتحمل هذه الشخصيات والرموز مسئولية في موقع مؤثر تحسب أخطاؤهم على الدعوة والإسلام " ثم أكد لنا ثانية بأن " عيوب النفس والأخلاق لا يمكن أن تظهر إلا بالاحتكاك والتعامل مع الغير ، لذلك كانت الأعمال الدعوية التي تتصل بالمجتمع بكل طوائفه وفي كل مجالات العمل فيه هي اختبارات عملية لسلوك الفرد يقاس من خلالها الأثر التربوي ، كما أن العيوب التربوية والسلوكية مثل (الفجور في الخصومة – الكذب في الحديث – الخلف في الوعد – خيانة الأمانة – الشح المطاع – الدنيا المؤثرة .. الخ ) لا يمكن أن تكتشف إلا من خلال المعاملات مع الآخرين ، كما أن الصفات الإيجابية مثل ( كظم الغيظ – العفو عند المقدرة – المروءة .. الخ ) لا تنمى إلا من خلال العمل الدعوي المجتمعي " .

مسك الختام
هي مفاهيم تربوية علمتنا إياها الدعوة عبر مسيرتها الخالدة :
· دعوتنا دعوة التكامل التربوي ، فالمفهوم التربوي الصحيح لا يفصل التربية عن الدعوة والعلم ، أو الجهاد والعمل للدين ؛ أو السياسة والإعلام ، فهي كلها خطوط واحدة ومتوازية ، والتربية فيها مسئولية الجميع .
· التربية لابد ان تكون شاملة لجوانب النفس البشرية " قلب وعقل وجسد " ، وهي تربية تسعى لتكسب النفس ( ايمان – خلق – حركة و دعوة ) بحيث لا يتم التركيز على جانب دون الآخر.
· التربية هي الأساس التوجيهي لكل عمل أو فكر أو خلق ؛ وهي أساس سلوك الفرد في مجتمعنا الدعوي ، مما ينعكس إيجابياً على طبيعة العمل الإسلامي ، ويعطيه صبغة يميزه الناس بها .
· التكامل التربوي يشمل أيضا تكامل بين الوسائل والأساليب التربوية ، ما بين الأسلوب المباشر وغير المباشر ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، والداخلي والخارجي ، والعام والخاص ... الخ ، مع الاهتمام في المقام الأول بالمحضن التربوي الأساسي (الأسرة ) والتي هي وحدة العمل المعطاء .
· التربية الواسعة الآفاق في العمل الدعوي - الاجتماعي والثقافي والعلمي - المشتمل على أمور الدين والدنيا والمرتبط بالمجتمع والدولة هي الأساس التربوي في تماسك بنيان الدعوة المرصوص ، والمعين على وحدة صفها وكلمتها .

السبت، ١٧ نوفمبر ٢٠٠٧

أنصار الدعوة جنود فكرة وعقيدة

أنصار الدعوة جنود فكرة وعقيدة

" الناس هلكى إلا العالمين ، والعالمون هلكي إلا العاملين ، والعاملون هلكى إلا المخلصين ، والمخلصون على خطر عظيم " حكمة عظيمة ومقولة جليلة أدركها المصلحون وعاشوا بها وربوا أبناء الأمة عليها ، فكانت الأجيال المؤمنة المغمورة ، التي لا تتبوأ المراكز الاجتماعية المرموقة، ولا تتمتع بصيت ولا شهرة ، ولكن الواحد منهم أقوى نصير للدعوة وأعظم حارس للفكرة ، فهو صاحب مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، ويتجرد له وأمين على العمل والصف الذي ينتمي إليه ، وبأمثال هؤلاء ثبتت الدعوة في أوقات المحن ، وتجاوزت كل الصعاب ، واستعصت على الإقصاء ، " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها ، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم " فكتب الله لهذه الدعوة البقاء ، فامتدت طولا حتى شملت آباد الزمن ، وامتدت عرضا حتى وسعت آفاق الأمم ، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة .

أخفياء أتقياء
علمتنا التجارب أن الدعوة لا تسود ولا تنتشر ولا تعلو كلمتها بتجار المبادئ الذين لا يعملون إلا ليغنموا ويستفيدوا في الدنيا ، ولا بالمرائين الذين لا يعملون إلا ليراهم الناس ويسمعوا بهم ويتحدثوا عنهم ويشيروا إليهم بالبنان ، بل تنتصر الدعوة بالذين يعتنقون المبادئ مؤثرين لا متأثرين ، مضحين لا مستفيدين ، معطين لا آخذين ، وصفهم الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله : إن الله يحب من عباده الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا ، أولئك مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة " ووجه ابن مسعود تلامذته للمعنى نفسه قائلا " كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الهدى ، أحلاس البيوت ، سرج الليل ، جدد القلوب ، خلقان الثياب ، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض " ، فتسابق القوم في إخفاء طاعاتهم ، وكان المخلص فيهم من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ، واشتهر علي بن الحسين رضي الله عنه بين الناس بالبخل وبعد موته علم الناس بأنه كان يكفل مائة بيت من بيوت المسلمين ، ووصف الحسن البصري هؤلاء قائلا " أدركت أقواما كان الرجل ليجلس مع القوم وإنه لفقيه وما يشعر أحد به حتى يقوم ، وإن كان الرجل ليجمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة وما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً " هي ليست دعوة للانطوائية والعزلة - فقد كان قائلوها قادة الدعوة والإصلاح والحركة في المجتمع - ولكنها دعوة اليقظة أمام شهوات النفس الخفية .

دعاة مغمورون
علمتنا الدعوة أن أنصار الدعوات هم المغمورون جاهًا، الفقراء مالاً، شأنُهم التضحيةُ بما معهم، وبذلُ ما في أيديهم، ورجاؤهم رضوان الله، وهو نعم المولى ونعم النصير، قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم : "رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره" وفي رواية: "رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره" على أكتاف هؤلاء تقوم الدعوات وتنصر الرسالات وتنجح الفكر ، ولكنها الموازين المغلوطة في دنيا الناس ، وقد صحح النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفاهيم حينما مر عليه رجل ، فقال لرجل جالس عنده : "ما رأيك في هذا"؟ قال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح (أي يزوج)، وإن شفع أن يشفع! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا"؟ قال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا أحرى إن خطب ألا ينكح، وإن شفع إلا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" ، ولم تبتلَ الدعوة عبر تاريخها المديد قدر ما ابتُليت بنفوس مريضة من أبنائها، باعوا دينهم بعَرَض من الدنيا، وباعوا نفوسهم بأبخس الأثمان، وآثَروا سمعة زائفة أو ذِكْرًا بين الخلق على رضا ربهم وصلاح أمتهم،
وقد نبه الحبيب صلى الله عليه وسلم أمته إلى هذا الأمر في ثنايا البشرى منه قائلا : "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب"..

حب و خوف
ما أحلاها حياة الدعوة ، وحياة أنصارها ، والدائرة بين الخوف والحب ، لقد كان أكثر خوفهم من حب الشهرة وانتشار الصيت وحب الجاه وحب المال ، فقد جاء في بعض الآثار: "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل" وقالها الزاهد البصري علي بن بكار : " لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله" وقد جاء مرفوعا من حديث كعب بن مالك: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" وصدق ابراهيم بن ادهم حينما قال " ما صدق الله من أحب الشهرة " ، وكان الإمام المؤسس حكيما حينما نبه إخوانه إلى المحاذير التي يجب أن يخاف منها أصحاب الدعوات بقوله " من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر "، ولله در صاحب النقب حينما اشترط على قائده شروطه للكشف عن هويته " لا تسودوا اسمه للخليفة ، ولا تأمروا له بشئ ، ولا تسألوا من هو؟ " ويحكي عبدة بن سليمان عن ابن المبارك قائلا : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا للبراز فخرج رجل من المسلمين فطارده ساعة فقتله ثم آخر خرج فتحداه فقتله ثم جاء ثالث فخرج عليه فطارده فقتله فزدحم الناس على هذا الفارس المسلم الذي كل ما خرج عليه واحد من الكفار فتحداه فطعنه فقتله أحاطو به وأزد حموا عليه ليعرفوا من هو كلهم رأوا عجبا وكان عبدة ممن أزدحم عليه وكان يطلم وجهه بكمه حتى لا يعرفوه مصر على إخفاء شخصيته يقول عبدة فأخذت كمه فممدته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائما له : أأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا ".

مدح وذم
علمتنا الدعوة أن صاحبها الحق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله ، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله ، خرج النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "يا أيها الناس، إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر" ورحم الله الفضيل حينما قال : " إن قدرت ألا تعرف فافعل ، وما عليك ألا تعرف ؟ وما عليك أن يثنى عليك ؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى " إنها إشارات تربية وتزكية للنفوس ، تصحح المسار للسائرين على الدرب ، فأصحاب الدعوات لا يبالون برضا الناس عنهم أو مدحهم لهم ، إذا كان من ورائه سخط الله ، وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة " ، وحينما سئل يحيي بن معاذ رضي الله عنه : " متى يكون العبد مخلصا ؟ أجاب : إذا صار خلقه كخلق الرضيع لا يبالي من مدحه أو ذمه " ، فكان من دعاء أمير المؤمنين على كرم الله وجه " اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون " ، وفي أحد مؤتمرات الدعوة أراد بعض المغرضين إفشاله فقاموا بالهتاف ضد المؤسس قائلين " يسقط حسن البنا " فثار شباب الإخوان عليهم ، فوقف الإمام البنا هاتفا من فوق المنصة : " يسقط حسن البنا " ، ثم توجه للجميع قائلا : " إن اليوم الذي يهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون " .

قائد وجند
رجال الدعوة إن كانوا في القيادة أو الجند سواء ، ما دام لا يستولي على قلبهم حب الظهور ، وتصدر الصفوف ، والرغبة في الزعامة واعتلاء المراكز القيادية ، وقد وجه النبي أصحابه لذلك الأمر قائلا : " إن من خير معاش الناس رجل آخذ بعنان فرسه ، كلما سمع هيعة أو فزعة قام والموت مظانه ، إن كان في الساقة كان في الساقة وإن كان في المقدمة كان في المقدمة " ولله در خالد بن الوليد حينما جاءه الأمر ليترك دفة القيادة إلى مراكز الجند ، فكان خير تجسيد لمقولة الحبيب .


علامات على الطريق
قال الجنيد: "إن لله عبادا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع" فاعقل أخي صاحب الدعوة درجتك عند الله ولا تزهو بمكانتك عند الناس ، والتمس نفسك في الملامح التالية ، عساك أن تجدها على الطريق ، فإنما هي مجاهدة طويلة، وتربية هادئة عميقة، فذلكم طريق السالكين:
1- الخجل من العمل والشعور بالتقصير في جنب الله .
2- لا يحب أن يعرف ولا يتحدث عن عمله
3- لا يحب ثناء الناس ولا يخاف ذمهم .
4- لا يبالي بموقعه مهما علا أو دنا .
5- يحرص على إخفاء الطاعات ، يؤثر العمل الصامت .
6- يحرص على توريث الدعوة مجردة عن شخصه .
7- أن يكون بينه وبين الله حال .
8- لا يغضب لنفسه ، ولا يرضى عنها ويسئ الظن بها .
9- يقل عند الطمع ويكثر عند الفزع .
10- يفرح بنجاح وظهور غيره ويعينهم في إنجاح مهامهم .


مسك الختام
كلمات من القلب ، حدد فيها الامام البنا شخصية رجل الدعوة والفكرة والعقيدة بأنه " جندي عامل لا فيلسوف مجادل ، كتيبة في ميدان لا كتاب في مكتبة ، مكافح في معركة لا مفاوض على مائدة ، وروح فذة لا عقل ألمعي ، لا يراوغ كالثعلب ولا يلين كالثعبان ، لا يختال كالطاووس ولا يتلون كالحرباء، لا يلعب كالقرد ولا يساوم كالتجار ، لا يتعاظم كالممثل ولا يتوقر كالمشعوذ ، بل يتحفز كالأسد ، و يلين كالماء ، ويزهو كالسيف ، و يسمو كالنجم ، ويعيش في الدنيا ولا تعيش فيه ،ويأكل منها ولا تأكل منه ، يموت ولا يأكل بشرفه ” كالحرة تموت ولا تأكل بثدييها ” وختمها الإمام البنا رحمه الله بقوله " وبذلك تكون جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعة ... وبذلك يعرف الأخ المسلم معنى هتافه الدائم الله غايتنا والله أكبر ولله الحمد "