الأربعاء، ٢٠ يونيو ٢٠٠٧

رحم الله الشيخ الشعراوي




كلمة ختم بها الشيخ الشعراوي حياته وأبى أن يكون من المنافقين والمطبلين ، وأعطانا درسا عمليا في النصح والإرشاد في وجه الحكام دونما خوف أو وجل إلا من الله عز وجل

الأربعاء، ١٣ يونيو ٢٠٠٧

عيوب النفس

يقول العارف بالله ابن عطاء السكندري رضي الله عنه : تشوفك الى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك الى ما حجب عنك من الغيوب
يقول شارح الحكم العطائية الشيخ أحمد بن عجيبة رضي الله عنه
التشوف الى الشئ : الإهتمام به والتطلع اليه ، تشوفك أيها الإنسان الى ما بطن فيك من العيوب , كالحسد والكبر وحب الجاه والرياسة وهم الرزق وخوف الفقر وطلب الخصوصية , وغير ذلك من العيوب , والبحث عنها , والسعي في التخلص منها أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب كالأطلاع على أسرار العباد , وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلية , وكالإطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له .لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب سبب في حياة قلبك , وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم .والإطلاع على الغيوب إنما هو في فضول , وقد يكون سببا في هلاك النفس , كاتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس , - فمن اطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان إطلاعه فتنه عليه وسببا يجر الوبال عليه
واعلم أخي المربي أن العيوب ثلاثة : عيوب النفس – وعيوب القلب – وعيوب الروح
فعيوب النفس : تعلقها بالشهوات الجسمانية , كطيب المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمساكن والمناكح , وشبه ذلك
وعيوب القلب : تعلقه بالشهوات القلبية , كحب الجاه والرياسة والعز والكبر والحسد والحقد , وحب المنزلة والخصوصية , وشبه ذلك من أوصاف البشرية
وعيوب الروح : تعلقها بالخظوظ الباطنية , كطلب الكرامات والمقامات والقصور والحور , وغير ذلك من الحروف ,فتشوف المريد الى شئ من ذلك كله قادح في عبوديته , مانع له من القيام بحقوق ربوبيته , فاشتغاله بالبحث عن عيوبه النفسانية والقلبية والروحانية , وسعيه في التطهير من جميع ذلك أولى من تشوفه الى ماحجب عنه من علم الغيوب وبالله التوفيق

السبت، ٩ يونيو ٢٠٠٧

ذلكم تاريخكم يا مسلمون
















اقرأوا جيدا واعتبروا يا أولي الألباب
لعلنا نعود إلى سالف عزنا
ونعيد لأمتنا مجدها التليد

من سنن الله في تربية الأمم


"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب "

سبب النزول :

قال قتادة والسدي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى ، وقيل نزلت في حرب أحد .
وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر ، لأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله وأسر قوم النفاق ، فنزلت الآية الكريمة تطييبا لقلوب المسلمين .
وأيا ما كان سبب النزول فإن الآية الكريمة تقرر سنة من سنن الله في حياة الأمم .

الأمم بين طور القوة وطور الضعف :

ذلك أن كل أمة بين طورين لا ثالث لهما يخلف كل منهما الآخر ن متى توفرت دواعيه وأسبابه ، هذان الطوران هما طور القوة وطور الضعف .
فالأمة تقوى إذا حددت غايتها ، وعرفت مثلها الأعلى ورسمت منهاجها ، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل مهما كلفها ذلك من تضحيات .
إذا صدقت عزيمة الأمة وقويت إرادتها في ذلك فقد قويت قوة مطردة لا تزال تزداد حتى تتنسم غوارب المجد ، ولا يمكن لأية قوة في الأرض أن تضعف هذه القوة أو تنال من تلك الأمة وهي على هذا الحال .
ولا تزال الأمة كذلك بخير حتى تنسى الغاية ، وتجهل المثل ، وتضل المنهاج ، وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد والتضحية ، وتهن العزائم وتضعف الارادات ، وتنحل الأخلاق ، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب ، وحينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب دبيب السقم الاجتماعي ، ولا تزال تضعف حتى تتجدد أو تبيد .

سبيل التجديد وسبل الإبادة :

وسبيل التجدد : أن يتيح الله لها الطبيب الماهر فيهتدي إلى الدواء الناجع ، وتتبعه الأمة في تناول هذا الدواء فتموت جراثيم المرض وتعود إليها القوة ، وتلك مهمة المصلحين ، والقادة مصابيح الهدى وشموس النهضات بهم تنجلي كللا فتنة عمياء .
وسبيل الإبادة أن تسدر الأمة في غيها ، وتظل هائمة على وجهها لا تنصت لناصح ، ولا تسمع لمرشد حتى تحين ساعة الفناء .
هذه السنة الربانية في بناء الأمم تقررها هذه الآية الكريمة ، فلا بد للمصلحين المجاهدين في سبيل إحياء الأمم وإعادة قوتها ومجدها أن يصمدوا لكل خطب ، ويحتملوا آلام الجهاد حتى تتحقق غايتهم ، فيكون جزاؤهم النصر ، ألا إن نصر الله قريب ، ولم تتخلف هذه السنة أبدا في قديم ولا حديث حتى مع أفضل الرسل وخير الأنبياء وصفوة الخليقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين ، والله تبارك وتعالى يقول " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " .
وفي الصحيح أن هرقل حين سأل أبا سفيان عن رسول الله قال : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ، قال : فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال : سجالا يدال علينا و ندال عليه ، قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة . " وفي الصحيح عن خباب بن الأرت قال : قلبنا : يا رسول الله ، ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو اله لنا ، فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتم الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذب على غنمه ن ولكنكم قوم تستعجلون " .
ولقد تمت نبوءة رسول الله فتم الأمر ، وظهر الدين ن وقويت الأمة ، وأدال الله للمسلمين من أعدائهم .
وفي حديث عتبة بن غزوان : " لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ما لنا من طعام إلا الدقل وحسك السعدان حتى تقرحت أشداقنا ، ولقد شققت نمرة – عباءة – بيني وبين سعد ، وهاأنذا أنظر فلا أرى منا إلا أمير قطر أو مصر " .
إن في ذلك لعبرة لأمم الإسلام في نهضتها الحالية لو أرادت أن تعتبر ، ولا مجال لليأس ، وهذه سبيل القوة ، حددوا الغاية ،و اعرفوا المثل ، وارسموا المنهاج ، واصبروا على الجهاد ، وأعدوا له عدته ، والنصر من وراء ذلك إن شاء الله " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " .

====-
خواطر من وحي القرآن .. من سلسلة من تراث الإمام البنا –للأستاذ جمعه أمين

الأربعاء، ٦ يونيو ٢٠٠٧

نحو تربية راشدة.. كي لا نحيد عن أهدافنا


(حينما بُعث إبراهيم- عليه السلام- سأل ربه لقوم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ (البقرة) فاستجاب الله دعاء نبيه إبراهيم، ولكن القرآن أعاد لنا ترتيب مهمة الحبيب المصطفى كما أراد الله عز وجل ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)﴾ (الجمعة) وهكذا تجلَّت لنا رسالة الحبيب التي بعث بها، وهي ثلاثية التربية الأولى التي يجب مراعاتها، ممثلة في (التلاوة- التزكية- التعليم)، والمربي الفعَّال يدرك أن هناك فرقًا في العمل التربوي بين توضيح المفاهيم والتزويد بالمعارف والتربية عليها وتحويلها إلى ممارسات وسلوكيات عملية ميدانية.

فالمفاهيم والمعارف يمكن تحقيقها من خلال لقاء فكري أو محاضرة ثقافية أو درس علم، أما التربية والتزكية فتحتاج إلى سنوات طويلة وحركة واسعة للاعتياد عليها والتخلُّق بها وإلى جهد شاق ومتابعة مستمرة للسلوك، وهذا ما بذله الحبيب- صلى الله عليه وسلم- طوال الفترة المكية، ومارسه في المدينة بعد قيام الدولة، ليؤكد أن التربية والتزكية لا تتوقف أبدًا، سواءٌ قبل قيام الدولة أو بعدها، وأنها عمليةٌ مستمرةٌ من الميلاد إلى الممات.

على الخطى نمضي

مع بدايات القرن العشرين استلهم الإمام البنا خطى الحبيب- عليه الصلاة والسلام- وانتهج النهجَ التربوي في دعوته، واعتمد التزكية والتربية سبيلاً، فأنشأ نظامَ الجوالة والكتائب وأسَّس الأُسَر التعاونية، ووجَّه إخوانه الدعاة والمربِّين، محدِّدًا لهم طبيعة الطريق بقوله: "إن معركتنا معركة تربوية"، وحدَّد لهم ما يجب عليهم تجاه ذلك، فقال: "أيها الإخوان.. إنكم في دور تكوين فلا يلهينَّكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب، اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من وقتكم لهذا التكوين وانصرفوا فيه لأنفسكم، واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لما هو لكم من الشئون؛ حتى يشتدَّ عودُكم، ويتم استعدادكم، وتكمل أهبتكم، وحينئذ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين".

عبرة في قصة
"رأى طفل زجاجة عصير صغيرة وبداخلها ثمرة برتقال كبيرة، فسأل والده كيف دخلت هذه البرتقالة داخل هذه الزجاجة الصغيرة؟! فأخذه والده إلى حديقة المنزل وجاء بزجاجة فارغة وربطها بغصن شجرة برتقال حديثة الثمار، ثم أدخل في الزجاجة إحدى الثمار الصغيرة جدًّا وتركها ومرت الأيام فإذا بالبرتقالة تكبر وتكبر حتى استعصى خروجها من الزجاجة".

والدرس التربوي الذي يتجلى لنا من هذه القصة هو أن الإنسان من الصعب عليه أن يتخلص من عاداته السيئة التي تربَّى عليها من الصغر أو التي استمر عليها لفترة طويلة، ولذلك قالها شهيد القرآن "إن حمل الجبال وتجفيف البحار أهون من تربية الرجال".

ماذا نريد بالتربية؟!
هل فكرت أخي المربي في هذه التساؤلات: إذا كانت التربية هي السبيل فما هدف العملية التربوية؟ وماذا تريد أن تحقق في المُربَّى؟ وما الأهداف المرجوَّة التي تسعى إليها؟.. هي لا شك ثلاثية الأهداف التربوية (تخلية- تحلية- تنمية) وهي التي يسميها دعاة الإصلاح والتربية بأجنحة العمل التربوي، وهي الأعمال التربوية التي لا يصلح القلب إلا بها:
1- التخلية: ونعني بها انتشال المرء من دائرة ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، وتعني تطهير النفس من رذائل الأخلاق، كالحسد والرياء والكبر والعجب وحب الدنيا وغيرها من الرذائل، وتجنُّب العادات السيئة، وتربية المدعو على الإسلام الأصيل، بأن نزيل رواسب الجاهلية التي في قلبه، وأن نطهِّر قلبه من الصفات الذميمة والأخلاق السيئة، وأن ننظِّف نفسه من كافة أمراضها وعوائقها (قذارات النفس- ذنوبها- سيئاتها- ضعفها- غفلتها- حسدها- حقدها... إلخ)، فهي عملية تطهير وتنظيف، ودورنا هنا هو معرفة الخصال الذميمة التي يتصف بها، وطرق التخلص منها، ومراعاة التدرُّج في انتزاع هذه الأخلاق من النفس لصعوبة ذلك دفعةً واحدةً، وتسمى المرحلة هنا بمرحلة التصفية.

2- التحلية: ونعني بها وضع المرء في دائرة ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتعني تحلية القلب وتزيينه بالقيم الإيمانية والأخلاق الفاضلة والسجايا والطباع الكريمة التي يفتقدها، كالعفة والشجاعة والحكمة، وتحلية النفس بفضائلها، ومظاهر ذلك (أن يحل حب الله محلَّ حب الشيطان- وحب الصالحين محلَّ حب المفسدين- أن تحل نية الخير محلَّ نية الشر- أن تتبدل النفس من سوء إلى خير- ومن جمود إلى حركة صالحة- ومن مسار منحرف إلى مسار مستقيم- ومن كل رذيلة إلى كل فضيلة)، فهي عملية تزين وتجميل، ودورنا هو معرفة الخصال الفاضلة التي تنقصه وطرق كسبها، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة الاتصاف.

3- التنمية: ونعني بها تنمية ما في النفس من صفات وقيم وأخلاقيات راسخة من قبل، وفي ذلك يقول الحبيب "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق"، وكذلك تنمية ما تم اكتسابه من صفات وقيم من بعد، فإن التربية لا تتوقف، فبعد التخلية والتحلية لا بدَّ للمربي أن يجلِّي هذه الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، فيصقلها، ويعمل على تنميتها في نفس المُربَّى، والارتفاع بمستواه، وتحقيق النقلة له من مستوى الاستعداد للخير إلى أداء الخير الفعلي، ومن رغبة السموِّ لديه إلى فعلية السموِّ، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة التجلية.

وقفات لازمة
ولا بد أن نوقن هنا بأولوية التخلية قبل التحلية والتنمية، قال تعالى ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (البقرة: من الآية 256) وهذا يدل على أهمية تطبيق مفهوم التخلية قبل التحلية، وقد مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا بمكة ليخلي تلك القلوب مما علق بها من رواسب الجاهلية؛ حتى نجح في تكوين الجيل القرآني الفريد، فلا تحلية بلا تخلية، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فإن امتلأ القلب بالباطل اعتقادًا ومحبةً لم يبقَ فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع"، ولهذا حرص الإمام البنا على هذا الأمر، فأكد لإخوانه على أهمية التخلية قائلاً: "وإن كان فيكم مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي.. فأخرجوه من بينكم فإنه حاجزٌ للرحمة حائل دون التوفيق".

ولا بد أن نوقن أيضًا بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية) عملية تربوية مستمرة إلى الممات، ولا تتوقف أبدًا؛ وذلك لأن النفس أمَّارة بالسوء ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: من الآية 53)؛ ولأن عداوة الشيطان مستمرة إلى قيام الساعة ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)﴾ (الحجر)؛ ولأن شياطين الإنس والجن متعددين ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ (الأنعام: من الآية 112)؛ ولأن الفتن تتفاوت على حسب الزمان والمكان والظروف، فهناك المال، الزوجة، الولد، والدنيا، والمناصب، وغيرها ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ (آل عمران: من الآية 14)... فقد يواجه المربَّى بعض الفتن في أول عمره، ويواجه البعض الآخر في آخر عمره، وهذا يجعلنا نجزم بأن عملية التخلية والتحلية عملية مستمرة إلى الممات لا تنقطع.

ولا بد أن نوقن بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية) تتفاوت في نسب الالتزام بها وتطبيقها على المربَّى من مرحلة تربوية إلى أخرى، ففي بداية الالتزام التربوي تكون عملية (التخلية) أعلى نسبةً من مثيلاتها (تخلية 50 %- تحلية 25 %- تنمية 25%)، وتتم عملية التدرُّج رويدًا رويدًا؛ حتى تتحقق نتائج التخلية بشكل قوي في المربَّى، فتقلّ فيه الصفات الذميمة، فتصبح النسب في مراحل التربية التالية (تخلية 25%- تحلية 25%- 50% تنمية)، ثم تصبح عملية (التنمية) أعلى نسبةً في مراحل التربية المتقدمة (تخلية وتحلية 25%- تنمية 75%)، وذلك حينما يتقدم المربِّي بالمربَّى في مراحل الدعوة التربوية.

شمولية التربية
وإذا كان الهدف من العملية التربوية هو قيام المربي بعمليات ثلاث مع المربَّى (تخلية- تحلية- تنمية) فإن نجاح ذلك يتوقف على مراعاة المربِّي لمكونات النفس البشرية الثلاثة (العقل- الروح- الجسد)، ولكل واحد من هذه الثلاثة حالةُ صحةٍ وحالةُ مرضٍ، فتأتي التخلية للتخلص من الحالة المرضية، وتأتي التحلية والتنمية للحالة الصحية، ولأجل ذلك كانت الأهداف التربوية ذات محاور ومجالات ثلاثة (المعرفية- الوجدانية- المهارية)؛ بحيث تخدم الأهداف المعرفية الجانب العقلي في الإنسان، وتخدم الأهداف الوجدانية الجانب الروحي، وتخدم الأهداف المهارية السلوكية الجانب الجسدي، وبالتالي تتكامل التربية ويتحقق الشمول التربوي في المتربي.

ولذلك رأينا سيدنا عمر بن الخطاب يمكث أكثر من 9 سنوات في حفظ سورة البقرة، ليس ضعفًا في حفظ لديه، ولكن لأنه كان لا يتجاوز العشر آيات إلى غيرهن حتى يعمل بهن، وفي مثال واضح على تحقق الأهداف الثلاثة جنبًا إلى جنب في العملية التربوية تأتينا وصية أم سفيان الثوري لولدها قائلةً:
1- يا بني احفظ العشر كلمات (المجال المعرفي).
2- وانظر إلى نفسك (المجال الوجداني).
3- هل زادت في خشيتك وحلمك ووقارك (المجال السلوكي).
4- فإن لم تفعل فاعلم أنها تضرُّك (معيار الإنجاز) وهو الهدف المطلوب تحقيقه.

ومن هنا لا بد أن يدرك المربي أن تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية متداخل، وأنها متكاملة، بمعنى أنها تتمثَّل في فهم وإدراك واقتناع عقلي لدى المربَّى، والذي يثمر تفاعلاً قلبيًّا واختلاجًا في الوجدان، ثم يفيض أثرها على الجوارح بعمل لا يتوقف، وقد نبَّهَنا إلى ذلك الحبيب بقوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وقد يحدث العكس، بأن يكون كل فعل بالجوارح له أثر يرتفع منه إلى القلب، ومن هنا فلا يمكن الفصل بين الأهداف الثلاثة لأنها متداخلة.

والمربي الفعَّال يدرك من ناحية أخرى أن قاعدة "ليس بالإمكان أفضل مما كان" لا مكان لها في العمل التربوي، فإن التخلُّق بهذه الثلاث (المعرفية- الوجدانية- المهارية) ليس مستحيلاً، بل يمكن أن يتحقَّق من خلال المحضن والمناخ والبيئة التربوية، فالأخلاق يمكن أن يُفطَر عليها الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله لأشجّ عبد قيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".

كما يمكن أن تُكتسب بالتدريب والتربية والتعوُّد عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يوقه"، وهذا ما يجب أن يستشعره المربي أثناء قيامه بعملية التربية، وليدرك أن التدرج البطيء والتربية المتأنية والرفق بالمربَّى سيحقق فيه المستهدفات التربوية ويكسبه الأخلاق، وأن تكون عينه دائمًا على تحقيق الثلاثية (المعرفية والوجدانية والمهارية) جنبًا إلى جنب.


ولذلك وضع الإمام البنا الأركان الثلاثة الأولى (الفهم والإخلاص والعمل) لتعمل على تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية.

وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية:
* اجعل عملك التربوي مشروعًا قيِّمًا يستحق العَناء والجهد والمال الذي ستبذله من أجله، واجعله مشروعًا ذا معنى وقابلاً للإنجاز، ليكون لبنةً جديدةً في بناء صرح الإسلام.

* راقب خطوات سير مشروعك التربوي جيدًا، وتفقَّده كل حين، ولا تدَع الهفوات الصغيرة تفلت من رقابتك الشخصية في بداية رحلتك مع مشروعك التربوي الجديد، وتحرَّ الأمانة والإتقان فيه، واحترِم كرامة المربَّى وآدميته، ولا تتعامل معه كفرد في قطيع.

* أعطِ النموذج والقدوة والأسوة من نفسك فيما تدعو إليه وفيما تربِّي عليه الآخرين، ولا تنسَ أنك مستهدف من هذا العمل التربوي في المقام الأول، وتذكر قولة المؤسس: "إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا فجاهدوا أنفسكم".

* عندما يمنُّ الله عليك بنجاح تربوي، فلا تركن إلى نفسك، ولا يأخذك العُجب، بل تذكر فضل الله عليك واحمده، وتذكر مقولة الكيلاني رحمه الله: "كلما رأيت وجه مريد هُدي على يدي شبعت وارتويت".

* أولاً وأخيرًا اربط نيتك بالله تعالى، وجدِّدها على الدوام قبل العمل وأثناءه وبعده، وإذا عزمت فتوكل على الله.

ولنتذاكر معًا ما قاله الإمام المؤسس رحمه الله: "أعدوا أنفسكم وأقبِلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل القوي، البغيض لديها، الشاقّ عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها".

والله الهادي والموفق لما يحبه ويرضاه.

الثلاثاء، ٥ يونيو ٢٠٠٧

كيف تختم القرآن الكريم في شهر؟


أخي الحبيب
إذا كنت صاحب همة عالية
وعزيمة صادقة
فإن الله ييسر لك الأمر
بتوفيق منه سبحانه وتعالى
وإليك أخي أبسط طريقة
لختم القرآن الكريم
في شهر واحد
فقط أنت بحاجة إلى
تنظيم حياتك
مع الصلوات اليومية
أعانكم الله

السبت، ٢ يونيو ٢٠٠٧

وسائل عملية لإيقاظ الإيمان
﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 79) شعار خالد لدعوة الأنبياء والمرسلين، ولحملة الرسالات وأصحاب الدعوات الربانية.. شعار يحمله كل مَن استولت قضية الإيمان على قلبه واهتماماته، فالربانية الحقة والإيمان الصادق لهما الأولوية الكبرى في حياة الدعاة، ولكن تبقى تساؤلات تتعلق بالعنوان..

هل نام الإيمان فينا حتى نحتاج أن نوقظه؟ أم تصاغَر حجمه في قلوبنا؟ أم راقت أنفسنا لغيره؟ وهل تحنُّ قلوبنا إلى أنوار الإيمان كما كانت تحن إليه لحظة الالتزام الأولى؟ هل اشتاقت أنفسنا للعودة من جديد إلى أول عهدنا مع الله؟!

أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات وافية، والجواب الشافي لها هو الدعوة من جديد إلى إيقاظ الإيمان في قلوبنا، وإحياء الربانية في دعوتنا، وأن تكون روحانية الداعية هي المسيطرة على فكرنا وحركتنا الدعوية.

أولاً: أهمية الإيمان للفرد والجماعة
1- إن الإيمان هو الأولوية في حياة المسلم، ويتصدر كل ما عداه من حظوظ النفس وضرورات الحياة والأهل والولد، والإيمان كفته راجحة في قلب الداعية إذا ما حدث تعارض بينه وبين شيء من صوارف الحياة وزينتها.. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).

ألم تر إلى حديث الحارث بن مالك الأنصاري الذي رواه الطبراني: "كيف أصبحت يا حارثة"؟ قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا..، فمن منا تخطر على باله مثل هذه الإجابة على مثل هذا السؤال؟! إلاَّ مَن استولت قضية الإيمان على قلبه واهتمامه، وهكذا يجب أن نكون بعون الله تعالى.

2- الإيمان هو الأصل والأساس الذي ينبثق منه كل عمل وخلق وحال.. أرأيت التلازم بين الإيمان والعمل في آيات القرآن مع سبق الإيمان دائمًا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.. فالإسلام علانية والإيمان في القلب، و"التقوى ههنا.. ويشير إلى قلبه- صلى الله عليه وسلم"، ثم أليس في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب؟!، فلا ينبغي أن نقدم الحركة والدعوة والنشاط على الإيمان.

3- الإيمان يدفع لأداء الأعمال بإتقان وإحسان ودقة وقوة، فمَن إذًا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" إن لم يكن المؤمن الصادق؟! ومَن أيضًا لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"..؟! إنَّ الدعوة والحركة اللتين تنطلقان من الإيمان الحي اليقظ يسري فيهما سرٌّ رباني وروح لطيفة تجعل فيهما الأثر والثمرة والبركة على مستوى الفرد والمجتمع والواقع.

4- إن الإيمان هو خير مُعِين على تحمُّل أعباء الطريق، وهو من أهم الأسباب التي يتنزَّل بها تثبيت الله- عز وجل- وتوفيقه وتأييده، وانظر إلى نداء الله لملائكته ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا..﴾ (الأنفال: من الآية 12) وقوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (إبراهيم: من الآية 27).

5- إنَّ الإيمان هو المَعِين الذي تخرج منه المواقف المبهرة، والبطولات النادرة، والتضحيات الغالية بالأنفس والأموال والأهلين، وفي سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام ما لا يُحصى من الشواهد على صدق هذه الحقيقة.

6- إنَّ الإيمان هو الخيط الذي ينظِّم حبات عقد الأهداف البعيدة والمرحلية والغايات الكبرى والأقرب، وبه كذلك تترابط الأعمال التي تبدو متناثرةً متبعثرةً.

ثانيًا: أسباب ضعف الإيمان
ومع كل هذه الأهمية لقضية الإيمان إلا أن الناظر العابر يلحظ ضعفَه وفتورَه لدى الكثير منا؛ الأمر الذي لا يصح إغفاله وإهماله بحال، بل يجب السعي لإحياء الربانية من جديد، وإضفاء معانيها على كل أعمالنا الدعوية والتربوية، ولعلَّ من أسباب ظاهرة ضعف الإيمان ما يلي:

1- الانغماس في الشواغل الدنيوية، كما قال تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ (المؤمنون:63)، وكما قال الأعراب عن أنفسهم: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ (الفتح:11)، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عن نفسه: "ألهاني الصفق في الأسواق"، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله..!!

2- إهمال أسباب زيادة الإيمان وانتعاشه، وقد قال الصحابة- رضوان الله عليهم-: "الإيمان يزيد وينقص"، فإذا ذكرنا الله- عز وجل- فهذه زيادته، وإذا نسينا وغفلنا فذلك نقصانه، وقالوا أيضًا: إذا كنا معك يا رسول الله رقَّت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة.. فلما خرجنا من عندك وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات قسَت قلوبنا وكنا من أهل الدنيا".

3- كثرة الأعمال والتكليفات، مع تشابكها وتداخلها بما لا يسمح بالتقاط الأنفاس، وإعطاء حق القلب والروح، وليست المشكلة في كثرة الأعمال وتشابكها وحسب، ولكن في عدم تنظيمها بالشكل المناسب، علمًا بأنَّ إضافة الربانية على أعمالنا يعيننا على إتمامها جميعًا.

4- بُعد هذه القضية المصيرية عن بورة الاهتمام القوي، والتركيز الشديد، والمتابعة الدقيقة لدى مستويات التوجيه المختلفة، وللإحساس بوجود البديل الدعوي والحركي عنه، وهما فرع من ذاك الأصل، بما يعني الانشغال بجانب الحركة على الجانب التربوي الإيماني.

5- كثرة اللقاءات الإدارية والتنفيذية، التي غالبًا ما تتَّسم بالجفاف، واختلاط الأصوات، وشيوع روح المراء والجدل، وافتقادها للتربية الإيمانية في تلك اللقاءات.

ثالثًا: وسائل إيقاظ الإيمان

1- على مستوى الفرد
أ - التفكر في صفحات الوجود المشهود: وهي عبادة جليلة ذات حظ عظيم، إلا أنها ضمرت واضمحلَّت، وكادت تُنسى في زحام الحياة، فليجعلْها الفرد في المحاسبة؛ فإن تفكر ساعة خير من قيام ليلة، كما قال الحسن البصري- رضي الله عنه- وذلك حتى تعود سيرتها الأولى في حياة السلف الصالح، فها هو أبو سليمان الدراني يقول: "إني لأخرج من منزلي ولا يقع بصري على شيء إلا وجدت لله عليَّ فيه نعمة ولي فيه عبرة".

ولأمرٍ ما كان من هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- في قيام الليل أن يقرأ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، وقد قال عنها: "ويل لمن قرأها ولم يتدبرها"، فحبَّذا لو تمثَّلنا حال أبي سليمان الدراني حين يتمكن هذا الخلُق من أنفسنا فيكون لنا بكل مشهد نراه عظةٌ وعبرةٌ، وحبَّذا أيضًا أن نتحيَّن أوقات تفكر الخليل إبراهيم- عليه السلام- عند حلول الليل، وظهور الكواكب، وبزوغ القمر، وشروق الشمس؛ فإنها أوقات مباركة، يجب أن يكون لنا فيها نصيب.

ب‌- مجالس الصالحين: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: من الآية 28)، فبمجرد المخالطة مع الصالحين يسري تيار عجيب بالقلب، يوقظ الإيمان، ويدفع إلى العمل، وقد كانوا ينظرون إلى وجه محمد بن واسع فيعملون بها شهرًا، كم نحن بحاجة في دعوتنا إلى مَن تكون جلساته جلسةً تذكِّر بالله، وتعين على طاعته..!!

ج- التدبر في كتاب الله تعالى امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (محمد: 24)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر:17)، وما أطال عبدٌ النظرَ في كتاب الله، وأعملَ الفكرَ إلا سرَت أسراره ولطائفه في قلبه؛ حتى يجد فيه صدًى موجَّهًا، ويرى تناغم رنين هذه الأسرار، وهنا فقط يعرف العبد معنى حياة القلوب.. ولقد قام النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلَةً بآية يرددها، وهي: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة:118).

د‌- التفكر في نعم الله علينا.. ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:34)؛ وذلك حتى يستشعر القلب فضله- عز وجل- ومنته، ويستشعر العبد مع ذلك أيضًا تقصيره وغفلته؛ فيستيقظ وينهض، وأقل هذه النعم هو ما يراه كثير من الناس من حظوظ النفس ومتاع الدنيا، من منصب وجاه ومال وولد وطعام وشراب وملبس ومركب وزينة، وأجر هذه النعم هو الإيمان بالله- عز وجل- ومعرفته، والتوفيق إلى طاعته، واتباع نبيه- صلى الله عليه وسلم.

هـ‌- التفكر في سنن الله في خلقه، وتقلُّب أحوال العباد بين العطاء والمنع، والتقدم والتأخر، والرفع والخفض، والعز والذل، والقوة والضعف، ومحاولة الوقوف على أسباب هذا، والاستفادة منها وتطويعها، وتجنب مصادمتها.

ذكر الله والدعاء
و- الاستكثار من العبادات المحصنة، مع المواظبة عليها وأدائها بخشوع وحضور قلب، وشهود عقل؛ حتى نسبر أغوارها، ونعرف أسرارها، ومن ثمَّ نجني ثمارها ونجد آثارها، ومن هذه العبادات الصلاة المكتوبة في المسجد في أول الوقت، والنوافل، وخصوصًا قيام الليل، وقراءة القرآن، وذكر الله- عز وجل- وصيام الهواجر.

ز- مصارعة الباطل بالحق: فهذا دليل على تمكن الحق من قلب العبد واعتزازه به، وحرصه على إقامته، ثم إذا شاهد جحافل المبطلين بخيلهم وخيلائهم علم أن لا ملجأَ له إلا إلى الله- عز وجل- فازداد توكلاً عليه، وثقةً به، ويقينًا في نصره، ومن ثم يزداد إيمانه في قلبه ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران:173)، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب:22).

ح- الارتباط بالمساجد وتعلق القلوب بها دائمًا؛ علَّنا بذلك ندخل في السبعة الذين يظلهم الله- عز وجل- بظله يوم لا ظل إلا ظله، ولنتأسَّ بأمثال سعيد بن المسيب الذي يخبرنا عن حاله قائلاً: ما أذَّن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.

ويجب أن يكون لنا برنامج عملي مع المساجد يشمل ما يلي:

- الحرص على التواجد في المسجد قبل الآذان ولو صلاة واحدة في اليوم.
- الاعتكاف بين المغرب والعشاء ولو مرة واحدة في الأسبوع.
- الاعتكاف ليلةً واحدةً في الشهر؛ وذلك لتجديد أثر المسجد في القلب؛ فإن أثره لا يعوَّض.

2- على مستوى الدعوة
أ‌- الارتقاء بمستوى الحلقة وإعادة سيرتها الأولى؛ باعتبارها محضن التربية الدائم الذي يتعهد الفرد في جوانبه المختلفة، ومنها جانب الإيمان الحيوي الذي نحن بصدده، وهنا يمكن اتباع ما يلي:

- قراءة ما تيسر من القرآن، مع التدبر العميق وتبادل المعاني والخواطر.
- قراءة ورد ذكر بصورة جماعية مع مراعاة الخشوع.
- صلاة نافلة في جماعة مع انتداب الأندى صوتًا والأرقَّ قلبًا.
- الحفاوة بكتب التزكية والرقائق والتواصي بالالتزام بما فيها.
- حسن إعداد كلمة شيخ الحلقة ليلة شهريًّا على الأقل، مع إحيائها بالذكر والاستغفار والقرآن والقيام.
- صلاة الفجر معًا مرة أسبوعيًّا، ثم قراءة الوظيفة الكبرى بعدها.
- زيارة القبور معًا للاتعاظ والاعتبار وتجديد العهد وصقل القلب.
- القيام بأنواع الرحلات المختلفة: حقلية/ نيلية/ قمرية/ صحراوية/ بالدراجات... إلخ، مع جعل التفكر فقرةً ثابتةً فيها.
- التهادي بين أفرادها بمعنى أو خاطرة أو موقف من السيرة أو حياة الصحابة أو الصالحين قديمًا وحديثًا، على أن يكون المحتوى في خدمة هدف إيقاظ الإيمان.

ب‌- الارتقاء بمستوى شيخ الحلقة في جوانبه الأربعة، والد، وشيخ، وأستاذ، وقائد، ولأنه شيخ بالتربية الروحية فعليه أن يتعهَّد حالة الإيمان في قلوب مريديه، ويوظف عليهم الوظائف، ويكلفهم بالأعمال، ويوصيهم بالعبادات المختلفة، ويعد جدول محاسبة يركز كل فترة معينة على بعض الجوانب مع حسن المتابعة.

ج‌- الرجوع بالليلة الإيمانية إلى سالف عهدها ومجدها، فهي مناسبة تحلِّق فيها الأرواح، وترتبط القلوب، وتمتزج النفوس، وتنسكب الدموع في أجواء التأثر والخشوع.. ولا مكان هنا للقضايا الفكرية والسياسية والإدارية.

د- التركيز على الجانب الإيماني والروحي في المخيَّمات، ومراعاة ما يحقق هذا في البرامج التفصيلية اليومية.

هـ- بدء اللقاءات الإدارية دائمًا بفقرة إيمانية لا تقل عن ثلث ساعة، تُملأ بمثل ما يلي:
- ورد استماع قرآني مع التدبر واستخراج المعاني والخواطر.
- كلمة مُعدَّة هادفة من مسئول اللقاء أو ممن يكلفه.
- تبادل الهدايا من المعاني المستفادة من القراءة أو الاستماع، أو السفر، أو المشاهدة، ويمكن تحديد عنوان موضوعي مسبق حتى يصب في إنائه الزاد المقدم.
- صفة من صفات التحلية نتذاكرها ونتواصى بها.
- صفة من صفات التخلية لنستبرئ منها.
- عبادة من العبادات لنبين فضلها، ونراجع حالنا معها، ونتدارك تقصيرنا فيها.

و- احتلال قضية الإيمان للمواقع المتقدمة في قائمة اهتمامات المستويات الإدارية.

ز- التخفف قدر الإمكان من التعقيدات الهيكلية؛ لتخفيف اللقاءات الإدارية والتنفيذية تبعًا لذلك.. الأمر الذي يعين على مزيدٍ من التركيز والاهتمام بجانب الإيمان.

ح- إذكاء روح الأخوَّة والتكافل؛ للمساهمة في التغلب على الظروف المعيشية القاسية، والتي تمثل عقبةً كؤودَ في وجه ازدهار الإيمان.. أليس بند الإيمان هو الأول دائمًا في نص عقد الأخوَّة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات:10)، "المؤمن مرآة أخيه"، "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير.."، فالصديق الصدوق مَن إذا نسيت ذكرك، وإذا ذكرت أعانك.

حينئذ نسعد جميعًا بعودة الروح إلينا، وإحياء الربانية في دعوتنا، وإيقاظ الإيمان في أنفسنا وفي لقاءاتنا وفي أعمالنا وحركاتنا، وحينئذ يصفو الصف، وتغيب عنا الكثير من مشاكلنا الداخلية ونزاعات النفس وأمراضها، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
طاقات تفجرها عقبات
شاءت إرادة الله أن تكون الحياة الدنيا مليئةً بالشدائد والمحن والابتلاءات، وطبيعة البشر فيها أن يتعرضوا لصور شتَّى ما بين أن يخفق لهم عمل، أو يخيب لهم أمل، أو يموت لهم حبيب، أو يمرض لهم بدن، أو يفقد لهم مال.. هذه هي سنة الله في الحياة وفي الناس كافة.. (وَلنبلونكم َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155).

أما أصحاب الدعوات فلهم إضافة إلى سنَّة الحياة العامة سنةٌ أخرى، وهي أن يكونوا أشدَّ تعرُّضًا لنكبات الحياة الدنيا وويلاتها، ففي دعوتهم إلى الله لا بد وأن يحاربهم دعاةُ الطاغوت، وفي مناداتهم بالحق لا بدَّ وأن يقاوموا من أنصار الباطل، وفي دعوتهم للخير لا بد وأن يعاديهم أنصار الشر، وفي أمرهم بالمعروف لا بد وأن يخاصمهم أهل المنكر، وبهذا يحيا الدعاةُ في دوامةٍ من المحن وسلسلةٍ من المؤامرات والفتن.

والداعية الحق يعلم أن طريقه قد تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار فيه الخليل ابراهيم، وتعرَّض للذبح إسماعيل، وبِيْع الكريم ابن الكريم يوسف بثمن بخس وسُجن، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وأُوذي وحبس وطورد وحورب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم..، فيطيب نفسًا ببذل الروح عند الضرورة، ويضحِّي بمصلحته في سبيل مصلحة الدعوة، ويرضَى بشظف العيش والحرمان إذا كان فيه انتصار للحق، ويستمرئ المرَّ، ويستعذب العذاب إذا كان على الطريق، ويرحب بالموت الزؤام في سبيل ما يؤمن به.

ومن دقة الفهم عند الإمام البنا أن جعل البلاء الشديد بدايةَ طريق أصحاب الدعوات: (أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولةً عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها وأهدافها ستَلقَون منهم خصومةٌ شديدةٌ وعداوةٌ قاسيةٌ، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقَّات، وستعترضكم كثيرٌ من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات..).

والداعية الحق يدرك أن العقبات تسير وفق قدر معلوم وقضاء مرسوم وحكمة إلهية.. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، ويدرك أن العقبات تأتي بلطف من الله، وأن الله يقدر البلاء ويلطف، ويبتلي العبد ويخفف، وهذا ما جعل يوسف يقول بعد صنوف البلاء التي تعرَّض لها (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100)، وهذا ما دفع أحد السلف أن يقول: "ما أُصبت في دنياي بمصيبة إلا ورأيت لله فيها ثلاثَ نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها".

والدعاة إلى الله يدركون أن العقبات تجارب نافعة لدينهم، ودروس قيمة لهم في حياتهم، ومحاضن للتربية تنضج من خلالها نفوسهم، ويصقل إيمانهم، ويذهب صدأُ قلوبهم، ومن هنا تتحوَّل العقبات من أمر سلبي في الحياة الدنيا إلى تفاعل إيجابي واستنهاض للهِمَم، وتفجير للطاقات.

ولقد فجَّرت المحن والابتلاءات والعقبات كل الطاقات الكامنة في النفس البشرية عبر التاريخ كله، والقرآن حفَل لنَا بنماذج استطاعت العقبات أن تعبر بهم من الوقوع في مستنقع النظرة السلبية للمحن أو الانعزال والانطواء، إلى المجال الرَّحب للاستفادة من الابتلاء في استخراج ما في النفس من هِمَم وعزائم وطاقات وإبداعات، ورأينا كيف أن التضييق على الأنبياء الثلاثة في دعوتهم لقومهم جعَل مؤمن يس يتحرك ويتوثَّب وينطلق (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمدِيْنَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِيْنَ) (يس:20).

ورأينا كيف أن صدود فرعون وزبانيته عن دعوة موسى وهارون جعل الرجل الصامت والكاتم لإيمانه يفجِّر ما لديه من طاقات وينطلق داعيًا ومبلغًا وناصحًا للقوم، وناصرًا لنبيه ولدينه ولرسالته.. (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيْمَانَهُ أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ..)؟! (غافر:28)، وكيف أن جبروت فرعون وتهديده بالبطش بمن آمن من السحرة قد فجَّر فيهم ينابيع الإيمان (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72).

وعلى هذا الدرب جاءت التربية القرآنية للصحابة الكرام في قلب المحنة المكيَّة ووسط الاضطهاد والتعذيب والتشريد، فتتنزل الآيات (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5)، ووسط مناخ البلاء الذي أصاب المسلمين يوم أحد (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، وعند التردد والمحن والابتلاءات تفجِّر طاقات عدة لم يكن لها أن ترى النور إلا عند معايشة البلاء وخوض التمحيص الرباني، ومن صور ذلك:

الصبر الجميل
فقد ضرب لنا القرآن مثلاً على قمة الصبر الجميل في شخص نبي الله يعقوب، والابتلاءات تتوالى عليه واحدةً تلو الأخرى (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:18)، وعلى أثره رأينا المحن تفجِّر براكين من الصبر الجميل كانت مكنونةً في النفوس، وما كان لنا أن نعرفها إلا من خلال المحن التي تنزَّلت على رجال الدعوة، فكان الصبر الجميل من أسر المعتقلين وذويهم وعدم خضوعهم للضغوط الأمنية عبر عصور المحن المتتالية، وتحملهم لمشاق الحياة وضيق العيش وغياب ربِّ البيت، وحسن تربية الأولاد.

فكان صبرًا جميلاً يفوق الوصف، حتى رأينا الزوجة الصابرة المحتسبة التي تخاطب زوجها المعتقل بعدما قال لها أنت حرة، فقالت له أتريد أن تأخذ الأجر وحدك.. ولا تريد أن نشارك معك في التضحية، ورأينا الأم الصابرة المحتسبة التي تكتب لولدها المعتقل حينما سمعت بفتنة التأييد فقالت له: لست أمًّا لك إذا كتبت، ورأينا الذرية الصابرة المحتسبة التي تخرج لتحمل ميراث أبيها الدعوي وتواصل المسير من خلفه، والنماذج أكثر من أن تُحصى أو تعد.

الثبات العجيب
رأيناه في ثبات أصحاب الأخدود، وبخاصة الرضيع بين يدي أمه، والسحرة بين يدي فرعون، ورأينا صور الثبات في العصر الحديث للآلاف من الإخوان الذين سِيقوا إلى محاكم التفتيش الحديثة ومعتقلات الأنظمة الطاغية ثباتًا فاق الوصف، ثباتًا أمام فتنة الغربة عن الأهل وثباتًا أمام فتنة الخوف على الذرية، وثباتًا أمام فتنة الحبس والاعتقال، وثباتًا أمام فتنة التعذيب الشديد، وثباتًا أمام فتنة الإغراءات وفتنة التأييد للنظام الطاغوتي مقابل الإفراج عنهم، وغيرها من الفتن التي تلاحقت عليهم، إنه قمة الثبات على المبدأ، والوفاء الثابت الذي لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر.

النفس المطمئنة
فقد تقبلت النفوس المحن والابتلاءات بنفس راضية بقضاء الله وقدره، بلا جزَع ولا وجَل، وتأقلم الإخوان مع معتقلاتهم، وقلبوها إلى ساحات تربية وتأهيل تربوي وإعداد نفسي، فكانت المدارسات الشرعية، وكان حفظ القرآن، وكانت الدراسات والبحوث والشهادات العلمية العديدة في قلب السجون والمعتقلات، في تفجير للطاقات واستغلال للإمكانات المكنونة داخل النفس، فكانت المعتقلات مخيَّمات تربوية على مدار العام ينهل منها الإخوان كل ما يعينهم على طريق الدعوة، وكم من الإخوة حفظوا القرآن؟! وكم منهم نالوا الشهادات الدراسية؟! وكم وكم من الأعمال الإيجابية داخل المعتقل؟! إضافة إلى التوريث الدعوي ونقل الخبرات بين الإخوان.

الأمل الواسع
ففي قلب المحن يتولد الأمل في النفوس، ورَبَّى الصحابةَ على ذلك الحبيبُ المصطفى؛ حيث كان يزرع الأمل في النفوس وسط ظلمات الفتن والابتلاءات، فيبزغ نور الأمل وفجره، كما حدث حينما جاءه خباب بن الأرتِّ قائلاً: "ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟! فيأتي جواب الحبيب: "والله ليتمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه"، وكما حدث في يوم الخندق حينما اجتمعت القبائل على المسلمين، إضافة إلى خيانة يهود المدينة، ويصور القرآن الحالة (وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) (الأحزاب:11،10) فيخاطبهم الرسول بلغة الأمل وهو يحطم الصخرة: "الله أكبر.. رأيت قصور الشام وقصور صنعاء"، علامةً على الأمل الواسع الذي يَبرز واضحًا في قلب المحن.

ولقد عاش الإخوان في السجون والمعتقلات والأمل يراودهم رغم المحن، وكان للأستاذ محمد عبد الفتاح شريف الفضل في تأسيس وكالة "أبشروا" داخل المعتقل؛ ليبث الأمل في النفوس، وكم كان الشهيد محمد هواش يخفف عن إخوانه هول ما يجدون من خلال ربطهم بالأمل الممتدِّ في آيات القرآن، وهكذا كانت المحن تغرس الأمل في النفوس بأكثر ما يكون في حال اليسر.

استنفاد الجهد المدخر
ومن فضل المحن على أصحابها أنها تجعلهم يستخرجون كل ما لديهم من جهد وطاقة في سبيل الله، ولقد رأينا مصعب بن عمير وأنس بن النضر يوم أُحد حينما سمِعَا بإشاعة قَتل الرسول، فكان جوابهم: "إذًا فقوموا وموتوا على مات عليه"، في استنفار لكل طاقة مكبوتة في النفس، وهكذا هم الدعاة في كل عصر، حينما تشتد المحن، يتزايد الجهد المبذول لسدِّ الخلل الذي أحدثه الابتلاء في الدعوة، فكان الأخ يعمل ما كان يقوم به أكثر من شخص ويفجِّر طاقات نفسه ليعوض الدعوة عما فقدت بتغييب رموزها خلف القضبان.

الانطلاقة الرحبة
حينما اشتدت المحن على المسلمين في العهد المكي كان ولا بد من انطلاقة واسعة تفتح آفاق جديدة للدعوة غير مكة، فكانت الهجرة إلى الحبشة، وكانت القوافل المؤمنة التي حملت الإسلام إلى قبائلها (غفار- أسلم- دوس- يثرب... إلخ)؛ مما فتح للدعوة الساحة للعمل خارج حدود البلاء المفروض عليها، وهكذا كانت الدعوة حديثًا حينما ضُيِّق على رجالها فانطلقوا وانساحوا في مشارق الأرض ومغاربها يفتحونها للدعوة ويُنشئون المراكز الإسلامية، ويؤسسون للدعوة ويورِّثونها لأجيال لم تكن تَسمع عنها من قبل، فكانت المحنة دافعًا على الانطلاقة الواسعة التي تحقَّقت للدعوة العالمية.

وهناك الكثير والكثير من الطاقات والإمكانات التي تفجِّرها المحن كلما جاءت وتعرَّض لها أبناء الدعوة، وهذا هو التفاعل الإيجابي مع العقبات والابتلاءات، بدلاً من الجلوس والبكاء على الحال الذي آلت إليه الدعوة ورجالها، فالداعية رجل إيجابي ومنطلق ومتفاعل ولا يعرف اليأسُ طريقًا إلى قلبه، ولا تحده حدود، ولا تحكمه محن وفتن، ولا توجهه الأحداث، بل هو الموجِّه وهو المتحكم والمتفاعل والمؤثر والمنطلق، وهكذا يجب أن نكون.. والمعين على تحقيق هذه الحالة النفسية الإيجابية حال المحن أمران:

أ‌- إيمان يقوي صلتهم بربهم، يُشعرهم بأن الله معهم، يُعينهم ويرشدهم ويَنصرهم ويؤيدهم، ويمدهم إذا تخلى الناس عنهم، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانوا، إنه الإيمان الذي ينير الطريق لأصحابه، ويحمي الصف من الأعرض التي تعترض طريقهم، ويثبتهم على المبدأ الذي يحملونه.

ب‌- أخوة تعين على نوائب الدهر، وتسدد الخطوات على الطريق، وتربط على القلوب، وتأخذ بيد المتعثر وترده إلى الجادة، أخوة تجعل الأخ يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، وهذه تتطلب صفات أساسية في رجال الدعوة (إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره).

ونختم بتشبيه للمحنة والنكبة ما أروعه، قاله الرافعي رحمه الله: "ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه، وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة والرضا إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقٌ آخر، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل".


التغيير التربوي


لماذا وُضِع هذا العنوان بهذا الشكل؟ ولماذا تم إضافة كلمة التربوي إلى كلمة التغيير؟ ألا يكفي القيام بالتغيير وفقط؟ أم لابد من هذا الوصف التربوي؟

الحقيقة أن المشكلة التي تتجلى اليوم على الساحة الإسلامية أن الكثير من العاملين للإسلام يحاولون من أوجهٍ عدة التغييرَ بأيِّ شكل كان، وبأيِّ صورة كانت.. دون النظر إلى المردود الذي يجب أن نحصل عليه بعد عملية التغيير.. ومن هنا لابد وأن يكون التغيير الذي نقوم به تغييرًا تربويًًّا في المقام الأول.. وقد لفت الإمام "البنا"- رحمه الله- أنظارنا إلى هذا البعد في عملية التغيير حينما خاطبنا بمقولته الخالدة: "إن معركتنا معركة تربوية"؛ ليغرس فينا هذه المعاني الأساسية، بأن أيَّ تغيير لا يقوم على عمل تربوي إنما هو سرابٌ خادعٌ، وأدرك الامام "البنا" أن بناء الرجال هو أهم ما ينبغي أن يُعنَى به المصلحون.

ولعل من أهم المميزات التي تميز دعوة الإخوان عن غيرها أنها انتهجت النهج التربوي؛ الذي يحقق التفاعل والتوريث الدعوي، وكان أروع ما وصفت به الجماعة أنها "جماعة تربوية"، وهذا الوصف يحتاج إلى تفصيل..

فكلمة جماعة تعني أمورًا عدة
• أنها مجموعة من الأفراد.. أي لابد من كونها دعوةً تجميعيةً يلتف حولها الأنصار، ويحدث لهم التوريث الدعوي.
• تعمل بشكل مشترك في تجانس فريد.. الكل يشعر أنها دعوته، هي جزء منه وهو جزء منها.
• لتحقيق هدف محدد؛ حتى لا تختلف القلوب وتتوزع في أنحاء شتى.
• تتميز بوحدة الاتجاه، وبالتالي التناسق التام في كل شكل من أشكال العمل؛ مما يعين على عدم اختلاف التوجُّه أو الوجهة.
• تعمل في تماسك، فهناك تعاون بنَّاء بين الجميع، أشبه بخلية نحل.
• منظمة ومستمرة؛ فالتنظيم والاستمرارية أمور مهمة تعد من ثوابت بقائها.

وكلمة تربوية تعني أيضًا أمورًا عدة
• واقعية.. تبدأ مع النفس من حيث هي، وتخاطبها وفق واقعها المحيط بها.
• مرنة.. تتلاءم مع ظروف العمل للدعوة وللأفراد وللمجتمع المحيط.
• حركية.. فهي تقوم على التربية الميدانية التفاعلية، لا على التوجيه الفكري أو النظري.
• عميقة.. فهي ليست أشكالاً سطحية للتربية الهشة؛ بل تغوص في أعماق النفس البشرية ومكنونات تلك النفس.

ومن هنا نعيد التساؤل: هل نحن بحاجة حقًّا إلى التغيير؟ وما الذي نريد تغييره فينا؟ وكيف السبيل إلى التغيير المنشود؟ وهل التغيير شاق؟!

نعم.. التغيير التربوي شاق
1- وذلك لأننا نتعامل مع النفس البشرية، والتي هي نفس تفسد وتسفك الدماء وتأمر بالسوء، نفس وصفها القرآن بأنها.. ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: 53)، فلا بد بدايةً من تذكُّر أن عملية التغيير عملية شاقة، وليست بالعمل الهيِّن؛ ولذلك قال لنا شهيد القرآن سيد قطب- رحمه الله- : إن حَمل الجبال وتجفيف البحار أهونُ من تربية الرجال.

2- لأن الإنسان يقف بين نفسين: نفس أمارة بالسوء، ونفس مطمئنة، والتغيير التربوي الناجح هو الذي يجعل الإنسان يميل إلى النفس المطمئنة بدلاً من النفس الأمَّارة بالسوء.

3- والتغيير عملية شاقة؛ لأنها لا تسير في درب مفروش بالورود، فكما أننا نقوم بالتغيير التربوي، فهناك أيضًا من يقوم بالتغيير المعاكس، فالفرد الذي نقوم بتربيته ومحاولة تغييره تربويًّا يمارس عليه نوعان من التربية: تربية صالحة، وتربية طالحة.

• تربية صالحة، وتغيير صالح، وهي التي يقوم به كل من يعمل عملاً إسلاميًّا، ويساهم في عملية البناء التربوي للمجتمع من كافة تيارات العمل الإسلامي.

• تربية طالحة وتغيير طالح.. يقوم به شياطين الإنس والجن والبيئة الطالحة المحيطة بالفرد، فتساهم مساهمة عكسية في التغيير بما في ذلك: (وسائل الإعلام، والمناهج التعليمية بالمدارس... إلخ).

4- لأن عملية التغيير التربوي تمرُّ أيضًا بممارستين، إحداهما إيجابية والأخرى سلبية..

• التغيير الإيجابي: وهو التغيير الذي نقوم به من خلال ممارسة صحيحة للتغيير المنشود، وعلى أكمل وجه.

• التغيير السلبي: وهو ناتج من صورتين.. إحداهما من الداخل حينما نربي؛ ولكن على غير ما هو مقصود ومنشود، والصورة الثانية من أي تغيير يقوم به غيرنا، فهو يغير وفق ما يعتقد هو ووفق ما رسمه، وقد يصب تغييره في غير ما نريد، فيكون بذلك تغييرًا سلبيًّا؛ لأنه يحقق أهدافًا مغايرة.

ومن هنا فإن نتاج عملية التغيير التربوي تتأثر بعمليتي جمع وطرح بين موجبين، وهما: (التربية الصالحة، والتربية الإيجابية)، وسالبين، وهما: (التربية الطالحة، والتربية السلبية).. ونتائج التغيير التربوي= (تربية صالحة+ تربية إيجابية )- (تربية طالحة+ تربية سلبية)، والتي ربما تكون خلاصتها نسبة50% بعد الجمع والطرح؛ ولذلك فهي تربية شاقة.

خصائص عملية التغيير التربوي

ربانية: فإن أي عمل تغييري نقوم به إنما نقوم به من منطلقات ربانية، وتحكمنا ربانية الدعوة التي ننتمي إليها، ومن ميزة الربانية التي تتسم بها دعوتنا أنها ربانية المصدر، بمعنى أنها تتلقَّى أوامرها من الله، وتسير وفْق مراد الله، وما أوجبه الله علينا، وربانية الوجهة: ومعناها أننا نبتغي بكل عمل نقوم به وجه الله وابتغاء مرضاته، ومن هنا فإننا برآء من مقولة (الغاية تبرر الوسيلة)؛ لأننا محكومون بأن نجعل الوسيلة ربانيةً أيضًا، فلا ننهج في التغيير أي وسيلة مرفوضة شرعًا، ولو كانت مؤدية لتحقيق الغاية الربانية.

شمولية: فإن التغيير الذي يجب أن نقوم به في عملنا التربوي هو تغيير شامل يتناول كل مكونات النفس البشرية (معرفة- وجدان- سلوك)، فيعطي التغيير كل واحدة من هذه المكونات حقها في التغيير حتى تكتمل عملية التغيير التربوي، وإلا كان التغيير الذي نقوم به تغييرًا مشوَّهًا، ونتج عنه شخصية مشوهة في التغيير.

وسطية: فلا إفراط ولا تفريط فيها، لا تميل إلى جانب على حساب جانب، ولا تبالغ في أمر دون أمر، تأخذ الأمور بوسطية واعتدال وتوازن.

إنسانية: فهي تتعامل مع نفس بشرية لا مع جمادات، تأخذ في سيرها بالسنن الإلهية في التعامل مع النفس البشرية، وأن هذه النفس لها مقومات وخصائص ومشاعر وأحاسيس يجب أن تراعَى.

متدرجة: تنتقل في خطواتها ومراحلها التغييرية وفق معايير متدرجة، ووفق خطوات مدروسة ومرسومة وواضحة المعالم، لا تتعجل النتائج، ولا تستبق الأحداث، ولا تتجاوز درجات السلم التربوي للتغيير المنشود، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

مستمرة: فهي تبدأ من الميلاد الحقيقي للنفس البشرية؛ أي لحظة الالتزام الدعوي والتربوي؛ بل وربما تبدأ قبل ذلك في سن الطفولة، ثم تمتد بهذه النفس في مسيرة منتظمة مستمرة حتى الوفاة، فهي عملية تربوية لا تتوقف: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، ولا يدعي أحد فيها أنه فوق العملية التربوية مهما كانت منزلته.

إيجابية: فهي دعوة للأمل والفاعلية، ترتكز على البحث عن إيجابيات النفس والبدء بها والتركيز عليها ومحاولة تنميتها، وإضفاء روح الإيجابية البناءة، والتفاعل المثمر، وبث روح الأمل في النفوس، والنظر إلى نصف الكوب الممتلئ بالماء لا الفارغ منه.

من هنا نبدأ
إنما نقصد بالتغيير التربوي تغيير الإنسان من حال إلى حال.. في (وجهته وأفكاره، ومشاعره وأحاسيسه، وأهدافه وطرائقه)، تغيير ينفذ إلى الروح والجوهر والمضمون، لا الشكل الظاهري فقط.

وهو بذل جهد مزدوج من الفرد المراد تربيته ومن القائم بالتربية، عبر عملية طويلة ممتدة يتم خلالها صياغة الفرد والأسرة والمجتمع وِفْق منظومة إسلامية متكاملة البناء تراعي مثلث التغيير المنشود في النفس البشرية (المعرفة والوجدان والسلوك) أو (النفس والقلب والجوارح)، فهو منهجٌ للتغيير يبدأ من الفرد.

وللتغيير التربوي المنشود غايتان
غاية قريبة: نسعى إليها منذ اللحظة، ونسير في خطوط متوازية وليست متتالية لتحقيقها، وتتمثل في (إصلاح الفرد المسلم- بناء الأسرة المسلمة- إرشاد المجتمع).. كلٌّ وفق شروط تكوينه وتربيته وتغييره، كما وضحها الإمام البنا
غاية بعيدة: قد تكون مرحلة تالية؛ ولكنها لا تغيب، وتتمثل في (إيجاد الحكومة المسلمة- إعادة الخلافة الراشدة- الوصول إلى السيادة وأستاذية العالم) وما ذلك على الله بعزيز.

هدفنا
أن تتحقق في الأفراد الصفات الأساسية التي تضمن تجانس البناء الداخلي للعمل الجماعي، وتأهيل الفرد للقيام بالأدوار الداخلية والخارجية المنوطة به.. وهذا يتطلب أمورًا عدة:

وجود مقياس تربوي نقيس به تحقُّق الهدف عبر معايير تربوية تقيس ثلاثية الفرد (النفس والروح والجسد).

الصفات الأساسية المطلوب تحققها في الأفراد أثناء عملية التغيير التربوي، وقد أجملت رسالة (التعاليم) تلك الصفات.

توفر بيئة متجانسة داخل المنظومة التربوية تساعد على تجانس الأفراد.

معرفة الأدوار الداخلية والخارجية (الحد الأدنى لها على الأقل)؛ فلا بد من تفعيل الجميع في أعمال دعوية وتربوية، وتلغي من قاموس الدعوة كلمة (بطالة).

معينات على التغيير
فردية: (تحقق نسبة من العلم- وضوح تام للفكرة في نفس القائم على التغيير- قدرته على المخالطة والاستيعاب والتأثير- اتصافه بالرفق والتواضع والحلم واللين والحكمة- الثبات على مبادئ الدعوة- والصبر على مشاق العملية التغييرية- والثقة في فتح الله له.. إلخ).

جماعية: (مراعاة المؤثرات البيئية المحيطة- إدراك حقائق النفس البشرية وفقه التعامل معها- إدراك فقه العمل الجماعي والحركة الجماعية.. إلخ).

اجتماعية: في الفرد والبيئة المحيطة به (تحقق نوع من الانتماء للإسلام- والنصرة له- إبداء التعاون على البر والتقوى.. إلخ).

قيادة تتقن صناعة الشهادة


"إن الأمة التي تحسن صناعة الموت يهبها الله الحياة الكريمة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة".. بهذه الكلمات ربَّى الإمام "البنا" تلامذته وأتباعه في الجماعة المباركة، وصاغهم على حب الجهاد ونية الاستشهاد، وعلمهم أن هذه الدعوة لا تقبل إلا التضحيات العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل، وأكثَر من ترديد الدعاء: "اللهم ارزقنا الموتة الطاهرة"، وسألهم: أتدرون ما الموتة الطاهرة؟ ثم قال لهم: "والله ما أراها إلا تلك.. وحزَّ بأصابع يده على رقبته، في مشهد تمثيليٍّ يجسِّد لهم الموتة الطاهرة بأنها التي تُقطع فيها الرقاب فداءً لهذا الدين.


بهذا الفهم ورِث أبناءُ الدعوة الرسالة، وأدركوا المهمَّة، وعرَفوا طبيعة الطريق، وفهِموا مقولةَ السلف الصالح: "أول الطريق قطرة دم.. هذه الجادة؛ فأين السالك؟"، ومضوا على الطريق يوفون بعهد الله.. ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111)، وهم يستمعون لشهيد القرآن وهو يهتف بهم واحدًا واحدًا: "طريقك قد خضبته الدماء"، فتسابَقوا إلى الميدان الأغر، الذي تنتظرهم على قارعته كوكبةُ الحور العين، وقوافل الشهداء السابقين الذين ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 170).


شهدت لهم ساحات الوغَى في أرض فلسطين في 48، وفي أرض القنال، وفي أفغانستان والبوسنة، وكل ساحة جهاد.. إنهم بحق رجال فعل وجهاد، وتضحية واستشهاد.. وتمتاز دعوتهم بأن الشهادة فيها صناعة وأمنية لقيادتها، الذين لا يؤثرون بها جنود الدعوة وفقط؛ بل هم في مقدمة صفوفها؛ بذلاً للروح، وشوقًا للحور العين، ومرافقةً للحبيب في جنات النعيم.


وكان انطلاق قوافل الشهداء من هنا وهناك، بدءًا من مؤسس الجماعة الإمام الشهيد "حسن البنا"، ومرورًا بقوافل الشهداء في 48، وقادة الدعوة في محنة 54 عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت ومن معهم، ثم قادة الدعوة في محنة 65 عبد الفتاح إسماعيل، وسيد قطب، ويوسف هواش ومن معهم، ثم شهيد أفغانستان كمال السنانيري وتلميذه عبدالله عزام، وتمضي القافلة لا تلين لها قناة، ولا تضعف أمام الضربات، وأمام ازدياد رحيل القادة شهداء في سيبل الله؛ بل أصبحت دعوةً ولودةً معطاءةً، عوَّدت أمتها أن تقدِّم طلائع وقوافل من القادة مجاهدين واستشهاديين.


وتتسلم أرض الإسراء والمعراج زمام الركب، وتصبح أكثر رواءً بدماء الشهداء، فتضم في ركبها "عماد عقل" والمهندس "يحيي عياش" و"صلاح شحاذة" و"إسماعيل أبو شنب"، وغيرهم الكثير، وينطلق الشيخ القعيد "أحمد ياسين"- مؤكدًا صحة التوجه-: "لا أخشى الشهادة؛ بل أحب الشهادة.. حين يريدونني سيجدوني فوق مقعدي المتحرك.. فأنا لا أختبئ"، فينال شهادةً عزيزةً غاليةً، يرقى بها إلى العلياء، ضاربًا أروع المثل عبر تاريخ الإسلام كله في التضحية والفداء والاستشهاد في سبيل الدعوة التي يحملها، ويتسلم الراية من بعده أسد حماس الجسور الدكتور "عبدالعزيز الرنتيسي"، فيؤكد أصالة الدعوة التي تقدم قادتها رموزًا للشهادة في سبيل الفكرة التي تحملها والغاية التي تنطلق بها: "لو رحل الرنتيسي والزهَّار وهنية ونزار ريَّان وسعيد صيام والجميع، فوالله لن نزداد إلا لُحمة وحبًّا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد، وغدًا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله- إن شاء الله"، ويزيد الأمر وضوحًا: "الشهادة أحد المرامي التي نرمي إليها، فإذا أطلت برأسها سوف لا نكون إلا مرحبين بها".


نعم صدقت يا أسد حماس الجسور، وها أنت تعانق من سبقوك على درب الشهادة في صحبة الحبيب المصطفى، وترحب بالشهادة أجمل ترحيب.. وتمضي القافلة نحو دربها المخضب بالدماء، تتقدمهم قيادات آمنت بسموِّ دعوتها، وقدسية فكرتها، فعزموا صادقين على أن يحيوا بها كرامًا، أو يموتوا في سبيلها كرامًا، فلم نرَ من قيادة الدعوة تردُّدًا ولا تراجعًا ولا توليًا للأدبار؛ بل نرى إقدامًا جسورًا، وهممًا متوقدةً، وعزائم فتِيَّة، وأرواحًا وثابةً، ودماءً سخيةً تسطر لنا أروع صفحات المجد والعزِّ والفخار على طريق صناعة الشهادة.

معالم أساسية لانطلاقة الداعية 3-3


دعوة بالوسائل كافة
الداعية الناجح لا يترك وسيلة لعرض دعوته وكسب الأنصار لها إلا استعملها، وهو يستفيد من كل ما أتيح له من وسائل حديثة، ومن مستجدات العصر في الدعوة إلي الله؛ فهو يدعو عبر القنوات الفضائية وعن طريق شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وكل ما يُستجد من وسائل وتقنيات حديثة، ولا يحصر نفسه في دائرة ضيقة من الوسائل، مع الحفاظ على ثوابت الدعوة وأصولها، والداعية الناجح يأخذ بالتنوع في وسائله الدعوية، وبما يتناسب مع الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وشعاره: "أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم".

والداعية الناجح يهتم بالأهداف العامة للدعوة؛ وهي تحقيق "الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل"، ثم يأخذ بالوسائل الأخرى الرئيسة منها والفرعية، ومن ذلك:

وسائل الدعوة المسجدية
والتي تشمل الخطب والدروس والمحاضرات والندوات والمواعظ والرقائق والخواطر والمؤتمرات... وكل ما يندرج تحت المسجد من وسائل وأنشطة دعوية.

وسائل الدعوة الخدمية
وهي من أقوى الوسائل تأثيرًا في الناس؛ ولذلك فإن شعار الداعية الناجح: "نحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب"، والداعية الناجح لا ينسى أن الدعوة الخدمية من أوجب الواجبات وأفضل العبادات؛ لأنها عبادة متعدية بالنفع للغير، وهي الأثر الباقي للداعية بعد موته.

وسائل الدعوة المرئية والمقروءة
وتندرج تحتها وسائل الإعلام الحديثة كلها من صحافة وتلفاز وقنوات فضائية وأجهزة حاسوب وشبكة معلومات، ثم الكتب الدراسية والمطبوعات والنشرات والمطويات والملصقات، ولعل أثر الشيخ "يوسف القرضاوي" على الجماهير المسلمة من خلال القنوات الفضائية يؤكد ذلك، وقد رأينا أثر الملصقات في الجامعات والميادين العامة، وهو يدعو النساء للحجاب فاستجبن لهذه الوسيلة الناجحة.

وسائل الدعوة بالجوارح
وهي وسائل الداعية المتميز، فالنظرة الحانية دعوة، واللمسة الرقيقة دعوة، والبسمة المشرقة دعوة، والكلمة الطيبة دعوة، والاستماع الجيد للآخرين دعوة، ودعاء القلب بظهر الغيب دعوة، وما أقوى أثر الجوارح حين يسخرها الداعية، ويستخدمها كوسائل لدعوته.

وسائل أخرى عدة
من ذلك الوسائل الدعوية التعليمية عبر وسائل التعليم المختلفة، والوسائل السياسية ممثلة في الانتخابات والمؤتمرات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، والوسائل الدعوية الرياضية من خلال الأندية ومراكز الشباب... إلى غير ذلك من الوسائل المتنوعة.

والداعية الناجح لا ينسى أن الدعوة بالقدوة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدعوة بالأمل من وسائله الدعوية الأساسية للوصول إلى الجماهير.

أخي الداعية، بهذه المعالم الأساسية الثلاثة من: دعوة الناس كافة، والدعوة للإسلام كافة، والدعوة بالوسائل كافة، تحقق لدعوتك الانتشار والتمكين والعالمية؛ فتصبح الدعوة متوغلة في كل أرض وتحت كل سماء: ?حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ? (البقرة: 193).

وقد قالها الإمام "البنا" للدعاة إلى الله: "سيروا في القرى وطرقات الأرياف، مرة في اليابس ومرة في الطين، وخالطوا هذا الشعب المؤمن، وعندها يفتح الله عليكم".

معالم أساسية لانطلاقة الداعية 2-3
دعوة الناس كافة

وهذا المعلم مما يميز دعوة الإسلام عن غيرها من الدعوات السابقة، التي كانت لأقوام خاصة، أما هذه الرسالة فشعارها: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف:158)، والدعاة إلى الله مطالبون بأن يقدموا دعوتهم للناس كافة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأوطانهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يعرض دعوته على الناس كافة، ويراسل الملوك، ولا يترك أحدًا إلا وبلغه رسالة الله، وهاجر إلى الطائف، ثم إلى المدينة ليبلغ رسالة الله.
والداعية حتى يحقق هذا المعلم لا بد له من
الانطلاقة المزدوجة
فالداعية لا يحقق الانتشار لدعوته إلا من خلال اتصاله المتعدد والمزدوج؛ فهو يبلغ دعوته للعامة من الناس والملأ في آن واحد، ويتوجه بدعوته إلى الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والمؤيد والمعارض، كما أنه يسير بدعوته على محورين اثنين: الدعوة الجماهيرية العامة، والدعوة الفردية الخاصة، فهي انطلاقة مزدوجة تحقق له كما قال "محمد أحمد الراشد" "انسيابية المجتمع، والبحث عن الرواحل، واصطفاء الأخيار"، كما أنه يتوجه بدعوته للصغير والكبير وللرجال والنساء جميعًا؛ لا يترك أحدًا من خلق الله إلا وبلغه دعوته، وكما قال "البنا": "وددت لو أنني أبلغ الدعوة للجنين في بطن أمه"!

مسافات منتصف الطريق
فالداعية إلى الله لا يغلق بابًا، ولا يسد طريقًا، فإن عجز عن إتمام دعوته، فلا أقل من أن يقيم جسورًا ممتدة مع المخالفين، ويقطع معهم مسافات منتصف الطريق؛ وذلك بأن تكون هناك نقاط التقاء يتفق عليها الداعية مع من يدعوهم، فيما يشبه "دائرة الثوابت والمتفق عليه"، وشعاره في ذلك: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، وذلك يجنب الداعية نفسه معارك جانبية كثيرة وصراعات، ويقطع مسافات كبيرة في طريق الاتفاق مع المخالفين.

مراعاة أصناف الناس
فالداعية يجد الناس أمامه أصنافًا عدة، منهم المؤمن بدعوته ورسالته، ومنهم المتحامل عليها، ومنهم المتردد في الإقبال عليها، لما يقال عنها من شبهات، ومنهم النفعي الذي ينتظر مغنمًا، ولكل صنف من هؤلاء جهد ودعوة خاصة، ولكن يبقى حرص الداعية على أن يبلغ دعوته إلى هؤلاء جميعًا.

دعوة للإسلام كافة
وهذا المعلم أيضًا مما يميز دعوة الإسلام عما سبقها، فقد أُرسل كل نبي إلى قومه ليعالج قضية معينة، ويدعو إلى فكرة واحدة، أما دعوة الإسلام فقد جاءت شاملة الجوانب كلها، وشعارها: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً? (البقرة: 208)؛ فهي دعوة إلى الإسلام الشامل؛ "دولة ووطن أو حكومة وأمة، وخلق وقوة أو رحمة وعدالة، وثقافة وقانون أو علم وقضاء، ومادة وثروة أو كسب وغنى، وجهاد ودعوة أو جيش وفكرة، وعقيدة خاصة، وعبادة صحيحة".

هذا هو الإسلام الذي يجب أن يدعو إليه الداعية، ولابد للداعية هنا أن يتمثل ثلاث نقاط هامة، هي:

أ - أن يؤمن بشمولية الإسلام أولاً، وأن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ.

ب - أن يدعو لهذا الشمول بكل وسيلة ممكنة، وفي كل محفل من محافل الدعوة.

ج - أن يحقق التوازن والاعتدال في عرضه للإسلام، فيعطي كل جانب من جوانب الإسلام حقه في العرض والتبليغ للناس.

معالم أساسية لانطلاقة الداعية 1-3

"سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي".. بهذه الكلمات كان أحد الصالحين يسبح بحمد ربه، ويذكر نعمة الله عليه بأن جعله من الدعاة إليه، وهكذا يجب أن يكون حال الدعاة مع الله؛ يسبحون بحمد ربهم على ما أنعم عليهم به بعد نعمة الإسلام والإيمان بأن جعلهم من الدعاة إليه، والحاملين لرسالته، والمبلغين لدعوته.

والدعوة إلى الله أعظم رسالة وأشرف عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة؛ فهي ميراث النبوة: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108).

إن الدعوة إلى الله؛ وهي أشرف رسالة، بحاجة إلى رجال يحملونها، ويقومون بواجب تبليغها للناس، ويسرعون بها إليهم، ويدفعونها قدمًا إلى الأمام نحو أستاذية العالم وشعارهم: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".

إن الناس في مشارق الأرض ومغاربها بحاجة إلى الدعوة لتخرجهم من الظلمات إلى النور، وتهديهم سبل السلام، وتأخذ بأيديهم إلى صراط الله المستقيم.

إن الدعوة بحاجة إلى داعية رحَّالة، يحمل دعوته ورسالته فوق ظهره، يتحرك بها في أرجاء الكرة الأرضية، شعاره: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) (يس: 20)، فهو ساعٍ إلى الخير دائمًا، في حركة دائبة وترحال لا يتوقف، وهو فارس لا يترجل، يجوب الأقطار والأمصار شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه.

والدعوة إلى الله بحاجة إلى رجل له من ميراث يحيى - عليه السلام - نصيب، فقد أمره الله بقوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم: 12)، فأخذه بهمة وعزيمة، وقام يبلغ قومه وينذرهم، وجعل من نفسه وقفًا لدعوته، حتى قطعت رقبته فداءً لدين الله، وهكذا يجب أن يكون الداعية في أخذه دعوة الله بقوة، وقيامه بها، ووقف حياته لها.

والدعوة إلى الله بحاجة إلى داعيةٍ له في "هدهد سليمان" العبرة والمثل، في تحركه وانطلاقه، وذاتيته وإيجابيته التي كانت سببًا في إسلام أهل اليمن؛ فأين الرجل الهدهد في دعاة اليوم، الذي يكون سببًا لإسلام أمة أو دولة أو قرية كما فعل الهدهد؟! بل أين الداعية الذي يكون سببًا في إسلام قبيلة أو عشيرة أو حتى رجل واحد على الأقل؟! قال - صلى الله عليه و سلم -: "لئن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم"، إن انطلاقة الداعية إلى الله لها معالم أساسية
نذكر منها أنها:



دعوة الناس كافة
وهذا المعلم مما يميز دعوة الإسلام عن غيرها من الدعوات السابقة، التي كانت لأقوام خاصة، أما هذه الرسالة فشعارها: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف:158)، والدعاة إلى الله مطالبون بأن يقدموا دعوتهم للناس كافة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأوطانهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يعرض دعوته على الناس كافة، ويراسل الملوك، ولا يترك أحدًا إلا وبلغه رسالة الله، وهاجر إلى الطائف، ثم إلى المدينة ليبلغ رسالة الله. والداعية حتى يحقق هذا المعلم لا بد له من


الانطلاقة المزدوجة

فالداعية لا يحقق الانتشار لدعوته إلا من خلال اتصاله المتعدد والمزدوج؛ فهو يبلغ دعوته للعامة من الناس والملأ في آن واحد، ويتوجه بدعوته إلى الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والمؤيد والمعارض، كما أنه يسير بدعوته على محورين اثنين: الدعوة الجماهيرية العامة، والدعوة الفردية الخاصة، فهي انطلاقة مزدوجة تحقق له كما قال "محمد أحمد الراشد" "انسيابية المجتمع، والبحث عن الرواحل، واصطفاء الأخيار"، كما أنه يتوجه بدعوته للصغير والكبير وللرجال والنساء جميعًا؛ لا يترك أحدًا من خلق الله إلا وبلغه دعوته، وكما قال "البنا": "وددت لو أنني أبلغ الدعوة للجنين في بطن أمه"!

مسافات منتصف الطريق

فالداعية إلى الله لا يغلق بابًا، ولا يسد طريقًا، فإن عجز عن إتمام دعوته، فلا أقل من أن يقيم جسورًا ممتدة مع المخالفين، ويقطع معهم مسافات منتصف الطريق؛ وذلك بأن تكون هناك نقاط التقاء يتفق عليها الداعية مع من يدعوهم، فيما يشبه "دائرة الثوابت والمتفق عليه"، وشعاره في ذلك: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، وذلك يجنب الداعية نفسه معارك جانبية كثيرة وصراعات، ويقطع مسافات كبيرة في طريق الاتفاق مع المخالفين.

مراعاة أصناف الناس

فالداعية يجد الناس أمامه أصنافًا عدة، منهم المؤمن بدعوته ورسالته، ومنهم المتحامل عليها، ومنهم المتردد في الإقبال عليها، لما يقال عنها من شبهات، ومنهم النفعي الذي ينتظر مغنمًا، ولكل صنف من هؤلاء جهد ودعوة خاصة، ولكن يبقى حرص الداعية على أن يبلغ دعوته إلى هؤلاء جميعًا.

الجمعة، ١ يونيو ٢٠٠٧

وللدعوة هدهدها ...

أيها الداعية الى الله ...
هل لك من فتح يفتح الله به عليك ؟
كن هدهدا كهدهد سليمان ... امتلك زمام المبادرة ... بادر وكن ايجابيا ... تحرك بدافع الذاتية ...
اجعل همك في دعوتك ... تجاوز الحدود الضيقة التي تحبس نفسك بداخلها ...

ميدانك رحب فسيح ... اسبح في الكون كله .. قف على الابواب والطرقات ... الحظ ما حولك ... ستجد من يحتاج اليك ...

قالها لك الامام المؤسس : سيروا في الطرقات والشوارع مرة في الوحل ومرة في الطين وسيفتح الله عليكم هذا الشعب ...

كم من أمة وكم من منطقة وكم من حارة وكم من نفوس وكم من قلوب ، تحتاج الى هدهد سليمان .. يكون سببا في هدايتها ...

كن ذاك الهدهد ... انطلق ... سارع .. سابق .. بادر ... الميدان أمامك ... احمل الدعوة بين جنبيك ... والقلوب متفتحة لك ... والنفوس عطشى لما بين يديك ...
فلا تتقاعس عن رؤية ما رأه الهدهد ، كما فعل عفريت الجن والذي عنده علم من الكتاب ... كن انت صاحب الهم .. الايجابي .. المبادر .. اليقظ .. المتحرك .. المتفاعل .. الذاتي الحركة ..
وأبشر بالخير ..." نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
.
مكانة الديك في دعوتنا

أيها الداعية كن كالديك!!!!!!!!!!

نعم .....كن أيها الداعية إلى الله كالديك فـــــي دعوتك...
فهو يحتاج اليه الناس .. يسعى جاهدا لهم يبشرهم في ظلمة الليل الدامس بقرب طلوع الفجر ...
فكن ذاك المبشر ... ينادي في القوم في شدة حلكة السواد واجتماع الهموم على العباد وما أكثرها ... ينادي فيهم أن زوال الهموم والالام قد اقترب ..

فكن ذاك المفرج للهموم والباعث للأمل في النفوس ...
فكم من غافل ينتظر انتباهة على يديك ... وكم من نائم ينتظر يقظة من نومه بفضلك ...

فلا تيأس أخي الداعية اذا هجم عليك ظلام الليل .. فاصبر كما صبر الديك حينما اسدل عليه ستار الظلام ... وانتظر حتى ترى بياض الفجر وهو آت باذن الله ..
حينئذ أبشر وبشر الناس معك بأن الغمة قد زالت ...
ونادي في النهار أيضا .. بأن الوقت غال وثمين .. فلا تذهبه سدا ...
بل طالب الناس بأن يغتنموا الأوقات الصالحات .. وان يستبقوا الخيرات قبل حلول الظلام ..
لعلها ساعة الوداع لنهار الحياة
...

وللصيد فنون

أيها الداعية .....
اذا أردت ان تصيد ، فالقلوب مهيئة ، والنفوس قد نزلت الميدان ،
ومعركتنا معركة تربوية ..والكل يسابق للفوز .. وأنت تحمل أسمى غاية لأجمل دعوة ...

كسب القلوب طريقنا ... والبسمة أول الطريق ، وسهامها لا تخيب ، فهي صدقة ..
ولكنها أيضا تفتح مغاليق القلوب ... ويأتي بعدها سلام شديد ... تتجلى فيه حرارة الحب في الله ، ويسري فيه نبض المحبة الإيمانية ..

ثم أتبع ذلك بأجمل الكلمات ، وانتقي أطايب الكلام المبشر بالخير " بشروا ولا تنفروا يسروا ولا تعسروا " ..
وللوقفة في المدلهمات دور عظيم في تحقق الصيد ونجاحه ..

فك أخي الداعية لصيدك ضائقة أصابته ، عالج له أزمة ، يسر له عسرا نزل به ، امش معه في حاجة مهمة له ، اسع لخدمته بكل ما لديك من وقت وجهد وطاقة ، أنت بذلك تملك قلبه رويدا رويدا ...

ولا تنسى أن تعلي من شأنه .. استشره في بعض أمورك .. احترم رأيه .. صوب قوله .. ابرز رجاحة عقله .. عرف به من هم في حضورك .. سلط عليه أضواء المعرفة .. افتح له بابا للولوج منه الى ميدانك الرحب ..

ودعوتك الحبيبة ... حينئذ فقد وضعته في جيبك وملكت عليه قلبه ... وختاما هنيئا لك فقد وقع في شراك صيدك الدعوي .. وانضم الى قافلتك المباركة ..

كن صاحب دعوة ولودة

نعم أيها الداعية إلى الله
أريدك أن تكون داعية ولودا...
قد تكون أخي الداعية ممن يملك الكلمة المؤثرة ....
أو ممن يحرك القلوب المتحجرة....... وممن يهز المنابر ... وممن يلتف حوله المستمعون وقت الحديث ... وفي كلٍ خير


ولكن .. الدعوة الولودة تحتاج الى داعية صاحب هم .. قادر على التوريث الدعوي .. انه الداعية الذي كل همه .. أن يلد داعية مثله .. يحمل رايته من بعده .. يواصل مسيرته ... يسير على طريقه ومنهجه ... فكن أخي الداعية ذاك الرجل ... الذي يحمل دعوة النور للعالمين .. فامتلك أخي الداعية مقومات التوريث ... وكن صاحب سجل للخلود ... وكن صاحب أثر ... " ونكتب ما قدموا وآثارهم "


فيا أيها الداعية إلى الله ... في الناس كثير من نجباء القوم .. ومن الرواحل .. وممن توفرت فيهم صفات الرجولة الحقة


ابسط لهم يديك .. أغدق عليهم من علمك .. وأكسبهم من خلقك وأدبك .. عش بهم في ظلال الدعوة الوارفة .. انهل لهم من معينها ... اشربهم مشاربها العذبة ... أفض عليهم من سلسبيلها الرقراق .. حتى يقوى عودهم ... حينئذ يخرجون الى الكون دعاة وارثين ... وابناء مطيعين لك ولدعوتك .. حاملين راية الحق المبين ... مساندين لجهدك ... مباركين لعملك ... فاتحين لدعوتك ... هذا هو نسب الابناء عن الاباء في دعوتنا المباركة ..
ولا تنسى أن في العقم يتم .... فلا تقبل لدعوتك أن تكون يتيمة أو عقيمة ..